هند بومديان
في زمنٍ أصبح فيه كل شيء سريعًا ومتغيرًا، يجد الإنسان نفسه عالقًا في دوامة لا تهدأ، يسابق الزمن في محاولة لا تنتهي لتحقيق المزيد، امتلاك المزيد، والوصول إلى المزيد، دون أن يدرك أنه في الحقيقة يفقد أكثر مما يكسب. الاستهلاك لم يعد مجرد سلوك اقتصادي، بل صار نمط حياة يحدد قيمة الإنسان ويعيد تشكيل رغباته ومعاييره، حتى باتت الحياة أشبه بحلبة سباق لا خط نهاية لها.
تُقاس السعادة اليوم بما يملك المرء، وليس بما يشعر به. كل شيء مسعّر، حتى الأحلام والطموحات. لا يعود الإنسان يرغب فيما يحتاجه فعليًا، بل فيما يُفرض عليه كرغبة من الخارج، تُزرع فيه عبر الإعلانات، وسائل التواصل، وثقافة النجاح المادي التي جعلت من الامتلاك معيارًا للتقدير الذاتي. وهكذا، يركض دون توقف، يلهث خلف وهم الاكتمال الذي لا يتحقق أبدًا، لأن السوق مصمم ليجعل النقص دائمًا، والحاجة مستمرة.
لكن، هل تساءلنا يومًا عن الثمن الحقيقي لهذا السباق؟ الضغط النفسي، القلق المستمر، الشعور الدائم بعدم الاكتفاء، واستنزاف الموارد الطبيعية بلا وعي.. كلها نتائج مباشرة لهذا النظام الذي يحوّل الإنسان إلى مستهلك أبدي، لا يعرف متى يتوقف. حتى العلاقات الإنسانية لم تسلم من هذا المنطق، فأصبحت هي الأخرى خاضعة لحسابات المنفعة، تقاس بمردودها العاطفي أو الاجتماعي، وتُستبدل كما تُستبدل المنتجات على الرفوف.
التوقف عن الجري لا يعني التراجع، بل قد يكون الفعل الأكثر جرأة في عالم يُقاس بقيمة ما تملكه لا بما أنت عليه. إدراك أن الحياة ليست معادلة أرقام، وأن الاكتفاء ليس ضعفًا، قد يكون بداية لتحرر حقيقي، حيث يصبح الإنسان سيد رغبته، لا عبداً لنزوات السوق. في النهاية، السؤال الذي ينبغي أن نطرحه ليس: “ماذا أملك؟” بل: “هل ما أملكه يجعلني أكثر إنسانية أم مجرد ترس آخر في آلة الاستهلاك؟”.
تعليقات ( 0 )