مع الحدث
المتابعة ✍️ : ذ لحبيب مسكر
مع دخول فصل الصيف حيث تزداد قسوة الظروف المناخية، وتبلغ درجات الحرارة ذروتها. ارتأينا تخصيص سلسلة من المقالات لتسليط الضوء على عدد من المهن التي لا غنى عنها وسط أشعت الشمس و الحرارة المرتفعة، مهن لا تحتفي بها العناوين الكبرى، ولا تسلط عليها الكاميرات، لكنها تواصل أداءها النبيل في صمت، وسط الحر والغبار والجهد المضاعف. هي التفاتة مستحقة لرجال ونساء يشتغلون في الظل، ويتحملون حرارة الصيف المفرطة دون تكييف أو مظلة… فقط بإرادة لا تلين.
وبداية هذه السلسلة ستكون مع الميكانيكيين، أو كما نحب أن نسميهم: “أطباء الظل”.
في عزّ الصيف حين يهرب الناس إلى الظل والمكيفات، تجدهم في قلب الورشات، محاطين بالحديد الساخن، والزيوت المحترقة، والأدوات الثقيلة. لا يبالون بالعرق ولا بالغبار، لأنهم ببساطة اعتادوا المواجهة اليومية مع التعب، وألفوا العمل تحت سقف من الحرارة واللهيب.
الميكانيكي ليس مجرد عامل يُبدّل قطعًا في سيارة، بل هو خبير تشخيص، وفني متمرس، وطبيب يعرف كيف يستمع لأنين المحرك، ويقرأ نبض العطب في أصغر التفاصيل. كثير منهم لم يدخلوا الجامعة، لكنهم تخرجوا من مدرسة الحياة، تتلمذوا على يد الأباء أو اكتسبوا الخبرة بالممارسة، حتى صاروا يفكون أعقد المشاكل بلمسة وبديهة.
في موسم الإجازات والسفر، حين تصبح السيارة الوسيلة الأساسية للتنقل، تزداد حاجتنا لهؤلاء. ففي كل عطب على الطريق، يظهر الميكانيكي كطبيب طوارئ، يتدخل في اللحظة الحرجة، يطمئن السائق، ويعيد للرحلة توازنها.
وفي بلد لا يستطيع أغلب مواطنيه تجديد سياراتهم كل خمس سنوات، يتحول الميكانيكي إلى طبيب دائم، يتابع تطورات السيارة، يراقب نبضها، ويتدخل في الوقت المناسب. علاقة السائق بالميكانيكي قد تصبح شبيهة بعلاقة المريض بطبيبه؛ تقوم على الثقة، والتجربة، والصدق.
ورغم أهمية دورهم يشتغل أغلب الميكانيكيين في ظروف صعبة، دون حماية اجتماعية، ولا تغطية صحية، معرضين للمخاطر دون سند، ومع ذلك لا يتوقفون، لأنهم ببساطة يعرفون أن رزقهم في سواعدهم، وأن كرامتهم في عرقهم.
للأسف هناك من يحتقرهم بسبب مظهرهم المتسخ أو ثيابهم الملطخة بالشحم، متناسين أن أيديهم تلك، التي تصلح وتعالج وتبتكر، أنظف ألف مرة من أيدٍ ناعمة لم تعرف معنى الجهد. في زمن طغت فيه المظاهر على القيم، علينا أن نتذكر دائمًا أن خلف كل سيارة تسير بأمان، هناك ميكانيكي صبور، يفهم ما لا يُرى، ويُصلح ما لا يُحس، ويمضي يومه في صمت… من أجل أن نصل نحن في أمان.
تعليقات ( 0 )