الأخبار الزائفة واثرها على الانسان

قبل أيام، تلقيتُ رسالة على “واتساب” تُعلن وفاة شخصية عامة، مرفقة بصور وتفاصيل تبدو واقعية. شعرتُ بانقباض داخلي، وكأنّ الموت طرق بابي أنا. دقائق مرتّ في قلق وترقّب… إلى أن تبيّن أن الخبر غير صحيح. تكرّر هذا المشهد كثيرًا. أخبار زائفة تُنشر بسرعة، تُصدَّق بسهولة، وتُخلّف وراءها أثارًا نفسية عميقة قد لا تظهر في حينها، لكنها تنخر في استقرارنا العاطفي بهدوء. هل توقفت يومًا لتسأل نفسك: ما الذي تفعله بنا هذه الأخبار نفسياً؟

لم تعد الأخبار الزائفة مجرّد إشاعات تتداولها المجالس، بل أصبحت صناعة قائمة بذاتها، تتغذّى على سرعة النشر، وضعف التحقق، وحاجة الناس المستمرة إلى استهلاك كل ما هو مثير وصادم. من شائعات الوفاة، إلى أخبار الزلازل الوهمية، إلى وصفات علاجية خطيرة تُقدَّم على أنها “طب بديل”، يعيش كثير من الناس تحت وطأة رسائل يومية تُهدد استقرارهم النفسي، وتزرع في داخلهم الخوف، أو اليأس، أو الغضب… وغالبًا دون أساس من الصحة. في زمن الشبكات الاجتماعية، لم يعد الكذب بحاجة إلى دليل، بل يكفيه “مشاركة” واحدة لينتشر كالنار في الهشيم.

الأخبار الزائفة لا تترك أثرًا في العقل فقط، بل تمتد لتُحدث تشوهات في المشاعر والسلوك وحتى في النظرة إلى الحياة. ولأن النفس البشرية بطبعها تتأثر بالمحيط وبما تتلقاه من رسائل، فإن تدفّق المعلومات الكاذبة يُصبح مصدر ضغط نفسي يومي، يُغذّي مشاعر القلق، ويُربك الإدراك، ويخلق حالة من التوتر الدائم. أول ما تُسببه هذه الأخبار هو القلق الجماعي، حيث يشعر الناس بالخطر حتى دون وجود تهديد حقيقي. يتحدث الجميع عن أمر ما، فتنتشر العدوى العاطفية: خوف، توتر، وقلق بشأن المستقبل. هذا القلق لا يُبنى على منطق، بل على إثارة إعلامية تتلاعب بالعواطف. ثم يأتي الإرهاق الذهني الناتج عن التعرّض المتكرر والمتناقض للمعلومات. في لحظة نُصدق، ثم نُكذّب، ثم نشك، ثم نُنهك. يصبح الدماغ مشغولًا دومًا بالتمييز بين الحقيقة والزيف، مما يؤدي إلى فقدان التركيز، واضطراب النوم، وانخفاض جودة الحياة النفسية. كما تؤدي الأخبار الزائفة إلى فقدان الثقة بالآخرين وبالمؤسسات، بل وحتى بالذات. يبدأ الفرد بالتشكيك في كل شيء، ويصبح أسيرًا لنظريات المؤامرة أو مشاعر العجز. هذه الحالة من انعدام الأمان النفسي تُشكل أرضية خصبة لظهور أعراض القلق، ونوبات الهلع، والاكتئاب أحيانًا.

قد يبدو غريبًا أن نصدق شيئًا لم نتحقق منه، أو نبني مشاعرنا وردود أفعالنا على مجرد عنوان أو صورة… لكن الحقيقة أن العقل البشري لا يعمل دائمًا بمنطق صارم، بل غالبًا ما يتأثر بما يُسمى في علم النفس بـ التحيّزات المعرفية. من أبرز هذه التحيّزات: التحيّز للتأكيد، حيث نميل إلى تصديق ما يتماشى مع أفكارنا المسبقة، حتى لو لم يكن منطقيًا. فالشخص القلق من الأمراض سيُصدق بسهولة إشاعة عن مرض قاتل، فقط لأنها تُغذي قلقه الداخلي. وتأثير التكرار، فكلما تكررت المعلومة، حتى وإن كانت كاذبة، زادت قابليتنا لتصديقها. وهنا تلعب وسائل التواصل دورًا خطيرًا في ترسيخ الكذب على أنه “واقع”. والخوف الجماعي، ففي لحظات الأزمات، يبحث الناس عن أي تفسير، حتى لو كان غير منطقي، لأن الخوف يحتاج إلى إجابة مهما كانت. والأخبار الزائفة تُشبع هذا الاحتياج، وتمنح الناس “شعورًا زائفًا بالتحكم”. كما لا ننسى العامل العاطفي: كلما كانت القصة مؤثرة أو صادمة أو مُخيفة، زادت قدرتها على الانتشار، حتى قبل أن نفكر في مصداقيتها.

إن مواجهة الأخبار الزائفة لا تتطلب فقط تقنيات لكشفها، بل أيضًا مناعة نفسية تحمينا من تأثيراتها العاطفية والعقلية. الحل يبدأ من الوعي، ويمتد إلى المسؤولية المشتركة بين الأفراد، والمؤسسات، ووسائل الإعلام. على المستوى الفردي، يجب تحقّق الأخبار قبل مشاركتها، وطرح أسئلة منطقية عن مصدر الخبر ومصداقيته، وتقليل التعرض للصفحات التي تغذي القلق، وتدريب النفس على التفكير النقدي والتمييز بين الخبر والرأي. وإذا أثرت الأخبار على الحالة النفسية، من المهم أخذ استراحة لإعادة التوازن. على المستوى الاجتماعي، ينبغي للمدارس والجامعات إدخال دروس عن الثقافة الإعلامية والمناعة النفسية، وللأسرة دور كبير في تنبيه أفرادها، خاصة الأطفال وكبار السن، إلى مخاطر تصديق كل ما يُتداول. كما أن للأخصائيين النفسيين دورًا مهمًا في حملات التوعية وورش العمل حول التأثير النفسي للأخبار الزائفة. أما على مستوى الدولة والمؤسسات، فيتوجب وضع قوانين تجرم نشر الأخبار الكاذبة، ودعم منصات التحقق المستقلة، وإشراك المختصين النفسيين في فرق إدارة الأزمات الإعلامية لتقييم الأثر النفسي لأي خطاب عام.

الأخبار الزائفة ليست مجرد كلمات تُنشر على الشاشة، بل هي سموم نفسية تتسلل بهدوء إلى عقولنا وقلوبنا، تزرع الخوف والشك والاضطراب، وتُهدد سلامنا النفسي والاجتماعي. لكن الوعي هو درعنا، والمسؤولية المشتركة هي سلاحنا. لا يمكن لأي فرد أو مجتمع أن ينجح في مواجهة هذا التحدي إلا عندما نُدرك أن لكل منا دورًا في الحفاظ على الحقيقة، وفي حماية عقولنا من الانزلاق في دوامة الأكاذيب. لنكن نحن التغيير الذي نريد رؤيته: فاحصين للمعلومة، حذرين من الانجرار وراء الإثارة، وحافظين على إنسانيتنا وسط زخم الأخبار المتلاطمة. في النهاية، العقل السليم في القلب السليم، ولن يزدهر إلا ببيئة إعلامية واعية ونفسية صامدة

شارك المقال
  • تم النسخ
تعليقات ( 0 )

اترك تعليقاً

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)