محفوظ كيطوني.. جيل Z؛ منطق الحوار أم منطق الصراع؟ سبع مقاربات لإعادة بناء الثقة بين الدولة والمجتمع

إن قياس التحولات السياسية في أي بلد يمرّ بالضرورة عبر تحليل طريقة الدولة في التعاطي مع الحركات الاحتجاجية السلمية. فهذه الأخيرة ليست مجرد تجمهرات محدودة او انفجارات عابرة، وإنما مؤشرات بنيوية على طبيعة العقد الاجتماعي وعلى مدى قدرة المؤسسات على التفاعل مع مطالب المجتمع. وفي التجربة المغربية، تبرز هذه المسألة كإحدى أعقد القضايا التي تستوجب قراءة متبصرة، تضع حدود المقاربة الأمنية في كفة، وتستشرف إمكانيات بناء رؤية سياسية جديدة أكثر شمولية وعدلا في الكفة الأخرى.

1. الاحتجاج كمرآة للتحول السياسي

الاحتجاجات السلمية تمثل ركن أساسي في الديمقراطية التشاركية، وأداة مجتمعية لتصريف المطالب وصون التوازن بين الدولة والمجتمع. غير أن بعض الممارسات ما زالت تعطي الأولوية للتدخل الضبطي كخيار أول، بدل اعتباره استثناء ظرفي. هذا المنحى لا يعكس فقط قصور في استيعاب الوظيفة السياسية للاحتجاج، بل يؤدي إلى تعميق فجوة الثقة بين المواطن ومؤسساته.

2. حدود المقاربة الأمنية: منطق الضبط مقابل منطق الإدماج

الاعتماد الحصري على التدخلات الأمنية لا يقدم إجابة متكاملة لتوترات اجتماعية وسياسية مركبة. هذه التوترات تعكس هشاشة بنيوية: بطالة مستفحلة، ضعف في الحماية الاجتماعية، وتفاوتات مجالية صارخة. كما يشير فوكو في تحليلاته، فإن السلطة التي تختزل ذاتها في أليات الانضباط تولد مقاومات صامتة، قد تتطور إلى رفض شامل. وفي السياق المغربي، تتحول احتجاجات افتراضية نسبيا بسيطة إلى منحنى تصاعدي و رمز وطني .

3. جيل “Z” بين التهميش والتأطير

جيل الشباب المغربي، المنتمي إلى عصر الرقمنة والانفتاح الكوني، يشكل اليوم أكبر كتلة ديموغرافية فاعلة. لكن التعامل معه كعبء أو مصدر إزعاج، بدل اعتباره رافعة استراتيجية، يفتح الباب أمام استقطاب خارجي من تيارات وأفكار مجهولة الهوية والطموح. إن إدماج هذا الجيل لم يعد ترف، بل أصبح شرطا وجوديا للاستقرار. وهو ما عبر عنه جلالة الملك محمد السادس في خطابه بمناسبة ثورة الملك والشعب (20 غشت 2018) حين دعا بوضوح إلى “الإنصات للشباب والتجاوب مع تطلعاتهم، وفتح المجال أمامهم للمشاركة الفعلية في الحياة العامة”، مؤكدا أن “قوة الوطن تقاس بمدى اندماج شبابه في مساره التنموي”.

4. الحاجة إلى رؤية مؤسساتية متكاملة

ما يزيد الوضع تعقيدا هو غياب التنسيق المؤسسي بين مختلف الفاعلين، و مختلف الوزارات . فبدل التكامل، يطغى منطق التنافس البيروقراطي، حيث تتحول المؤسسات إلى فضاء للإزاحة المتبادلة لا لبناء رؤية مشتركة للحكامة. والنتيجة أن المواطن يجد نفسه ضحية جانبية لصراع سلطوي داخلي، يضعف الثقة ويعطل فعالية القرار. هنا يمكن استحضار أطروحة غي دو بورد في “مجتمع المشهد”، حيث تغدو السياسة مشهد سلطوي منفصل عن الواقع الاجتماعي.

5. الإصلاحات القانونية كمدخل لتجديد الثقة

لا يمكن معالجة أزمة الثقة دون إصلاحات قانونية عميقة. فجميع القوانين المطروحة على مجلس الحكومة او في غرف التشريع او لدى الامانة العامة للحكومة ،فاليوم لابد من اعادة النظر في هذه الترسانة القانونية برمتها فالقانون للمجتمع و ليس للتحكم في المجتمع ،،فمدونة الأسرة مطالبة اليوم بأن تجيب عن انتظارات المجتمع بما يضمن العدالة والإنصاف ويعكس روح الدستور و نبض الشارع و المجتمع المغربي . أما القوانين الانتخابية، فيجب أن تعيد تعريف المشهد الحزبي وفق معايير الكفاءة والقدرة على تأطير الشباب، لا على أساس شبكات المصالح والوجوه المكرسة.خاصة الدعم العمومي للأحزاب الذي ينبغي أن يربط بمدى فعاليتها في تكوين نخب جديدة ونيل ثقة المواطنين. والقطع مع “تجار السياسة” ومع من تحوم حولهم شبهات الفساد شرط لا محيد عنه لإعادة المصداقية للعمل السياسي..

6. نحو مقاربة شمولية للأمن المجتمعي

الأمن الحقيقي لا يقوم فقط على تفريق الاحتجاجات، بل على بناء عدالة اجتماعية. تعليم ذو جودة، فرص شغل، حماية اجتماعية فعالة، وعدالة مجالية… كلها عناصر تعيد الثقة وتحصن المجتمع ضد الانفجار. وهو ما ينسجم مع ما طرحه أمارتيا سن في “التنمية كحرية”، حين ربط بين الأمن والتنمية والقدرة على المشاركة. الأمن المجتمعي إذن هو تكامل للسياسات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، لا مجرد تدخل أمني ظرفي.

7. منطق الحوار بدل منطق الصراع

الرهان الأكبر اليوم هو الانتقال من منطق الصراع إلى منطق الحوار. فالاحتجاجات ليست معركة صفرية بين الدولة والمجتمع، بل فرصة لبناء الثقة وتجديد السياسة. فتح قنوات للتواصل مع الشباب، والتعامل مع مطالبهم كحق ديمقراطي، هو ما سيعيد للسياسة معناها. إن الحوار لا يضعف هيبة الدولة، بل يرسخها، لأنه يحول التوتر إلى إصلاح، والاحتجاج إلى قوة اقتراحية.

وعلى سبيل الختم فالتجربة المغربية تكشف أن مستقبل السياسة لن يصان بالمقاربة الأمنية وحدها، بل برؤية شمولية تعيد الاعتبار للحوار، وتضع الشباب في قلب المشروع الوطني. الإصلاحات القانونية، تكامل المؤسسات، والإنصات لمطالب المجتمع، ليست ترفا سياسيا بل شرطا وجوديا للاستقرار كما سبق ذكره .و المغرب اليوم أمام خيارين: إما إدارة الاحتجاجات كملفات أمنية ظرفية تفاقم فقدان الثقة،و بالتالي تفتح المغرب للمجهول ،أو الانخراط في مشروع جامع مجتمعي كامل متكامل يعيد للسياسة معناها وللمؤسسات مشروعيتها و للمسؤوليات الرئيسية أدوارها .

إنّ قوة الدولة لا تقاس بقدرتها على الضبط وحده، بل بمدى قدرتها على الإصغاء لمواطنيها، وتوسيع آفاق مشاركتهم، وتحويل تطلعات الشباب إلى طاقة بناء. فهؤلاء ليسوا خصوما، بل أبناء الوطن وعماد مستقبله.

 

محفوظ كيطوني

محام ،باحث في حقوق الانسان و قضايا المجتمع

شارك المقال
  • تم النسخ
تعليقات ( 0 )

اترك تعليقاً

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)