سؤال إصلاح مدونة الأسرة بين إرادة ملكية وترهل حكومي
د.عبد النبي العيدودي
نائب برلماني، باحث في الشؤون الدينية والسياسية، ومدير المركز المغربي للقيم والحداثة
يسلك موضوع إصلاح مدونة الأسرة منهجية من ثلاثة محاور، المحور الأول يخصص لثلاثة مقدمات لا بد منها، والثاني يحلل أربع فقرات من الخطاب الملكي السامي متعلقة بسياسة الإصلاح المحددة في خطاب العرش 2022 من منظور جلالته ، وخصصت المحور الأخير للعروج على القضايا الخلافية التي يطرحها موضوع إصلاح مدونة الأسرة .
فالمحور الأول ثلاثة مقدمات لا بد منها، أولا ماذا تنتظر حكومتنا المترهلة، سنة مرت على دعوة جلالة الملك محمد السادس نصره الله لإطلاق ورش إصلاح مدونة الأسرة ؟ ماذا تنتظر حكومتنا المترهلة لتطلق ورش إصلاح القانون الجنائي الذي سُحب منذ سنتين ؟ ماذا تنتظر حكومتنا المترهلة لإطلاق الدعم المباشر للمواطنين ؟ وماذا تنتظر حكومتنا المترهلة للرفع من الأجور والحد من تداعيات ارتفاع الأسعار؟ ماذا تنتظر حكومتنا المترهلة لمزيد من التمكين الاقتصادي و السياسي و الاجتماعي و القانوني و الحقوقي للمرأة المغربية ؟
ثانيا في سنة 2002-2003 كنا نقرأ كتاب الأستاذ خالد البرحاوي (مدونة الأحوال الشخصية ) وكان النقاش فقهيا و حاد معه كل أسبوع بمدرجات جامعة محمد الخامس كلية العلوم القانونية و الاقتصادية و الاجتماعية السويسي… فأردف هذا النقاش بخطة إدماج المرأة في التنمية تُوج بإصدار مدونة الاسرة في 5 فبراير 2005 بمثابة قانون للأحوال الشخصية المغربية .
ثالثا وبعد مرور 18 سنة أعلن جلالة الملك محمد السادس نصره الله في خطاب العرش 2022 على ضرورة مراجعة هذه المدونة في إطار مؤسساتي لسد كل النقائص التي لحقتها وفق منهجية عمل واضحة وسأمسك بتلابيب الخطاب الملكي في شقه المتعلق بإصلاح مدونة الأسرة من خلال تحليل أربع فقرات منه أطرت ووجهت مسار الإصلاح الملكي المنشود لمدونة الاسرة :
وفي المحور الثاني أربع فقرات في الخطاب الملكي السامي لعيد العرش 2022 في شقه الأسري جديرة بالتأمل و الفهم و التحليل، فالفقرة الأولى من المنطوق السامي في شقه الأسري رفض جلالته أن تحرم المرأة من حقوقها و دعا إلى ضرورة إشراك المؤسسات الدستورية المكلفة بالأسرة في هذا الإصلاح فقال في خطابه:( لا يمكن أن تحرم المرأة من حقوقها. وهنا، ندعو لتفعيل المؤسسات الدستورية، المعنية بحقوق الأسرة والمرأة، وتحيين الآليات والتشريعات الوطنية، للنهوض بوضعيتها.) يعني أن جلالته حريص كل الحرص على أن تتمكن المرأة المغربية من جميع حقوقها الاقتصادية و الاجتماعية و القانونية و السياسية و المدنية .. كما وجه جلالته كل المؤسسات الدستورية التي يدخل في نطاق اختصاصها هذا التمكين بالقيام بمهامها و المشاركة في هذا الإصلاح ، وهي دعوة تهم المجلس الوطني لحقوق الانسان و المجلس العلمي الأعلى و المجلس الوطني للتربية و التكوين و مجلس الأسرة و الطفل و كل المؤسسات الدستورية التي لها علاقة من قريب أو بعيد بالمرأة و الطفل و الأسرة .. و هذا يدفعنا إلى مزيد من الاطمئنان .. فانقسامات أمس حول إصلاح المدونة و تشكيل لجنة ملكية للإصلاح و التوفيق بين التيار الحداثي و التيار المحافظ سيحل محلها اليوم المؤسسات الدستورية التي جاء بها دستور 2011 و على الجميع أن يكون مؤمن بمغرب المؤسسات و بالقرارات التي تصدر عن المؤسسات الدستورية و هنا سننتظر الصفة النهائية لمشروع إصلاح مدونة الأسرة المغربية ترفع من طرف هذه المؤسسات إلى السدة العالية بالله ليصادق عليها ويزكيها بصفته أمير المؤمنين و الوصي عن بيضة الأمة ووحدتها.
ثانيا في الفقرة الثانية من المنطوق السامي في شقه الأسري أكد جلالته على ضرورة تصحيح المفاهيم فما هي المدونة و ما هي أركانها .. و ما هي العوائق التي تقف أمامها .. و ما هي القواعد الممكنة لإصلاح المدونة وفق التطورات السوسيولوجية المتعددة..
فقد جاء في نص الخطاب السامي : (وإذا كانت مدونة الأسرة قد شكلت قفزة إلى الأمام، فإنها أصبحت غير كافية، لأن التجربة أبانت أن هناك عدة عوائق، تقف أمام استكمال هذه المسيرة، وتحول دون تحقيق أهدافها. ومن بينها عدم تطبيقها الصحيح، لأسباب سوسيولوجية متعددة، لاسيما أن فئة من الموظفين ورجال العدالة، مازالوا يعتقدون أن هذه المدونة خاصة بالنساء. والواقع أن مدونة الأسرة، ليست مدونة للرجل، كما أنها ليست خاصة بالمرأة؛ وإنما هي مدونة للأسرة كلها. فالمدونة تقوم على التوازن، لأنها تعطي للمرأة حقوقها، وتعطي للرجل حقوقه، وتراعي مصلحة الأطفال)
هذه الفقرة تؤكد حكمة وتبصر جلالته ، حيث ضبط المفهوم أولا وصححه لعدد كبير من رجال العدالة و باقي الفاعلين، فعرَّف المدونة بأنها ليست للمرأة بل هي للرجل و للمرأة و الطفل على حد سواء، ميثاق ترابط غليظ يضمن حقوق المرأة و حقوق الرجل و حقوق الأطفال، و لا مدونة إلا بثلاثة أركان (رجل-وامرأة-وأطفال).. ولأن التجربة التي عاشتها المدونة منذ 2005 عرت على العديد من العيوب و النواقص و العوائق (- سنتناولها في المحور الثالث -)أصبح لزاما علينا مراجعتها.
وفي الفقرة الثالثة من المنطوق السامي في شقه الأسري وشدد جلالته على التزام الجميع بالتطبيق الصحيح لنصوص المدونة 🙁 لذا، نشدد على ضرورة التزام الجميع، بالتطبيق الصحيح والكامل، لمقتضياتها القانونية. كما يتعين تجاوز الاختلالات والسلبيات ، التي أبانت عنها التجربة ، ومراجعة بعض البنود ، التي تم الانحراف بها عن أهدافها ، إذا اقتضى الحال ذلك. وبصفتي أمير للمؤمنين ، وكما قلت في خطاب تقديم المدونة أمام البرلمان ، فإنني لن أحل ما حرم الله، ولن أحرم ما أحل الله ، لاسيما في المسائل التي تؤطرها نصوص قرآنية قطعية.) يدافع جلالته على ضرورة التطبيق الصحيح و الكامل لبنود المدونة .. كما يدافع على ضرورة الإصلاح و تقويم كل النقط السلبية التي عرت عليها تجربة 18 سنة من العمل بالمدونة .. كما حسم جلالته في النقط الخلافية التي تتعارض و روح الشريعة الإسلامية .. فأكد بعدم الخوض في الأمور التي تؤطرها نصوص قطعية الدلالة وهي إشارة من جلالته واضحة لمن يريد الخوض في مواضيع المساواة في الإرث و حرية التحكم في الجسد والعلاقات الرضائية و الخيانة الزوجية وغيرها .
أما الفقرة الرابعة من المنطوق السامي في شقه الأسري كما وضع جلالته منهجية العمل خلال مراحل إعداد مراجعة المدونة حيث قال في منطوقة السامي :(ومن هنا، نحرص أن يتم ذلك ، في إطار مقاصد الشريعة الإسلامية ، وخصوصيات المجتمع المغربي، مع اعتماد الاعتدال والاجتهاد المنفتح ، والتشاور والحوار ، وإشراك جميع المؤسسات والفعاليات المعنية)
حسم جلالته في منهجية العمل بضرورة فتح نقاش مجتمعي و إشراك المؤسسات الدستورية في إعداد هذا الإصلاح مع مراعات مقاصد الشريعة الاسلامية و ترك باب الاجتهاد المنفتح على قواعد الاستحسان و الاستصحاب و المصالح المرسلة .
وفي المحور الثالث قضايا خلافية في إصلاح مدونة الأسرة ، فإن التوجه الحداثي الذي تبنته المنظمات الحقوقية والصالونات الحداثية يبقى محل نظر، خصوصا عندما يتعلق الأمر بمواضيع محسومة بالنص الشرعي القطعي الدلالة الذي لا يتحمل أكثر من وجهة كالإرث، ( يوصيكم الله في أولادكم لذكر مثل حظ الأنثيين ) فلا اجتهاد مع ورود النص القرآني القطعي الدلالة . لكن مواضيع عديدة كموضوع المساواة في الإرث عرف سجالا مجتمعية ضخم لم يُحسم إلى الآن ، ومنها من أصبح وصمة عار تطال بعض بنود مدونتنا، في ظل القفزة الحقوقية التي عرفها المغرب انسجاما مع المواثيق الدولية التي صادق عليها في هذا المضمار.
ومن ضمن القضايا الخلافية التي تحتاج الإصلاح بمدونة الأسرة نجد، زواج القاصرات، غياب تكوين للخطيبين حول مؤسسة الزواج، تعدد الزوجات، إشكالية حرمان المرأة من المتعة حال تقدمها بطلب التطليق، سلطة تقديرية واسعة للقضاء في تحديد مستحقات الزوجة، الوساطة الأسرية كبديل عن الصلح القضائي، إشكالية آثار الطلاق خصوصا ما يتعلق بحق الكد والسعاية للمرأة المطلقة، عدم تمكين الأم الحاضنة من الولاية على أبنائها، وأن زواجها يسقط حضانتها، العلاقات الرضائية وإشكالية لحوق النسب خصوصا في ظل توفر الخبرة الجينية كوسيلة من وسائل ثبوت النسب، وعاشرا المساواة في الإرث!
أولا: زواج القاصرات هو اغتصاب للفتاة وتدمير لمستقبلها، فمكانها في هذه المرحلة العمرية هو المدرسة والتعلم، لذلك فتحديد سن الزواج في 18 سنة أصبح مستعجلا أكثر من أي وقت مضى و القطع مع الإذن للقضاء بتزويجه ، لكن هناك خصوصية بالمناطق الاطلسي العميق ترى في زواج القاصر ضرورة لانقاذها من العنوسة .. وهذه الخصوصية وجب الانتباه لها حتى لا يقع أي انفلات خارج القانون بهذه المناطق و عدم الاستمرار في تجارب زيجات .
فإذا كان القرن الفارط يزف بتجارب زيجات ناجحة لفتيات قاصرات، فإن الحاضر عكس ذلك تماما حيث انفتح المغرب على العالم وأصبحت المرأة كالرجل تتطلع لإتمام دراستها وتحقيق ذاتها قبل الزواج، في أغلب مناطق البلاد، لكن بعض المناطق الجبلية و البدوية لازالت تعاني من الهدر المدرسي في صفوف الفتيات مما يكرس فكرة الزواج المبكر للفتاة قبل بلوغها سن18.. فتتجه الاسرة الى طلب اذن القاضي بالزواج لها رغم عدم توفر الشروط الاجتماعية و البنيوية لانشاء الاسرة ، مما يدفع القاضي الى عدم الاستجابة لبعض الطلبات .
وفي ظل عدم استجابة القاضي المكلف بالزواج لإذن زواج بعض القاصرات نظرا لانعدام الشروط، يسعى بعض الأزواج إلى الركون لزواج الفاتحة الغير معتد به قانونا، وعند نشوء النزاع يفك ميثاق الزوجية شفهيا ويجد نفسه في نهاية المطاف رهن الاعتقال ومتابعا بجريمة التغرير بقاصر. وهنا يبرز دور المؤسسات التربوية و الثقافية و الرياضية في مزيد من العمل لمواجهة هذه الظاهرة و الحد منها.
و ثانيا غياب تكوين للخطيبين حول مؤسسة الزواج واستفحال ظاهرة الطلاق، ومن ضمن سلبيات تمكين المرأة من تطليق نفسها للشقاق، ارتفاع نسبة الطلاق بالمغرب لأرقام فلكية، وأمام هذا الإشكال أصبح لزاما إقرار مؤسسة مختصة بتأطير الخطيبين قبل إبرام عقد الزواج وتحسيسهم بمقاصد الزواج وغاياته حتى يكون كلا الخطيبين على بينة من أمرهما مستوعبين لما هو مُقدمين عليه، ويبقى التنصيص على وثيقة التأهيل تسلمها المؤسسة المذكورة المختصة مرفق ضروري لباقي مرفقات ملف عقد الزواج.
ثالثا تعدد الزوجات، الإذن بالتعدد في ظل المدونة الحالية هو دمار للأسرة والمجتمع، فمسطرة التعدد هي معقدة تكاد تكون مستحيلة نظرا للشروط الغير ممكنة والواجب توفرها في التعدد.
وفي حال توفر هذه الشروط -تجاوزا- يتطلب الأمر استدعاء الزوجة الأولى وإشعارها بواقعة التعدد وإتاحة الفرصة لها لطلب التطليق حال رفضها.. و هو حق شرعي لها يحول الى اختيار بدل الإلزام بالحفاظ على بيت الزوجية .. ينادي الحداثيون بحريتها في الاختيار .
وأمام هذا التعثر التشريعي وما ترتب عليه من تذبذب قضائي حول الاستجابة من عدمه لمقالات التعدد، أصبح لزاما فتح نقاش مجتمعي حول تعدد الزوجات في المدونة المرتقبة.
رابعا إشكالية حرمان المرأة المطلقة من المتعة حال تقدمها بطلب التطليق، ومن ضمن مستحقات المطلقة المتعة تعويضا عن ما أصابها من فقر وبؤس بسبب الطلاق وجزاءً لها عن ما حققته لزوجها من استمتاع.
وإن كانت مدونة الأسرة قد نصت بشكل صريح عن تمكين المرأة من متعتها بعد الطلاق، إلا أن الاجتهاد القضائي (محكمة النقض) استقر على حرمانها من هذا الحق حال تقدمها -أي الزوجة- بطلب التطليق، وهذا حيف في حق المرأة وخرق سافر للنص القرآني حيث قال تعالى: “فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة”، ومن هذا المنطلق من الواجب التنصيص في التعديل المرتقب على تمكين المرأة المطلقة من واجب متعتها حتى ولو كان التطليق من طرفها.
خامسا سلطة تقديرية واسعة للقضاء في تحديد مستحقات الزوجة والأطفال، ومن آثار انحلال ميثاق الزوجية وجوب مستحقات للزوجة كالصداق المؤخر والمتعة ونفقة العدة و السكن أثناء العدة، كما للأطفال حقوق من قبيل النفقة و مصاريف السكن وأجرة الحضانة والرضاع.
وما يعاب على المدونة الحالية أنها فتحت الباب على مصراعيهللقضاء في تقدير هذه المستحقات حسب كل قضية على حدى، وحتى وإن كان للقضاء سلطة تقديرية في حل النزاعات التي تفتقر للنص التشريعي فإن موضوع مستحقات الزوجة والأطفال يجب أن يخرج عن هذا السياق ويُنظم بشكل دقيق ويُحدد في التعديل المرتقب معيار يركن إليه القضاء في هذا المضمار وذلك تفاديا للحيف الذي يطال النساء المطلقات والأطفال من بعض المحاكم.
سادسا نشد عضد الصلح القضائي بالوساطة الأسرية مسنود بمساعدين اجتماعيين ، وأمام ارتفاع حالات الطلاق والتي بلغت السنة الماضية 300 ألف حالة بمعدل 800 حالة طلاق كل يوم، أصبح لازما مراجعة *مسطرة الطلاق والتطليق* خصوصا ما تعلق بمحاولة الصلح القضائي، ولئن كانت مدونة الأسرة منحت هذا الاختصاص للقضاء ومعه الحكمين و مجلس العائلة إلا أن الممارسة أبانت عن الاختصاص الحصري للسلطة القضائية في هذا المضمار.
وفي ظل كثرة الملفات الرائجة أمام أقسام قضاء الأسرة ونظرا للخصاص المهول الذي تعرفه المحاكم في العنصر البشري، أصبح إجراء الصلح كمحطة مسطرية اجبارية، إجراءً روتينيا لا يترتب عليه سوى تسريع مسطرة الطلاق.
وبناء على ما سبق فالوساطة الأسرية هي قارب النجاة وهي الملاذ الناجع للحد من ظاهرة الطلاق، ولا بد من إسناد مساعدين اجتماعيين لصلح القضائي .. لأنهم أصحاب الخبرة و الصلاحية في تقديم تقرير للهيئة القضائية تستند عليه قبل إصدار أي حكم .. سيساعد في إنجاح محاولات الصلح.
سابعا إشكالية حق الكد والسعاية للمرأة المطلقة، وتحدثت المادة 49 من مدونة الأسرة عن تدبير الأموال المكتسبة أثناء قيام الزوجية، وأعطت إمكانية الاتفاق على طريقة تدبير وتوزيع هذه الأموال حالة فك رابط الزوجية، وفي حالة غياب الاتفاق يرجع للقواعد العامة للإثبات مراعاة لمساهمة كل زوج على حدى، وماذا لو لم يتم الاتفاق على تدبير الأموال المكتسبة أثناء قيام الزوجية، ولم تكن الزوجة موظفة أو عاملة وكان لها الدور البارز في تنمية ثروة زوجها في إطار ما يصطلح عله فقهيا *بحق الكد والسعاية، ففي ظل صعوبة إثبات كد الزوجة وسعيها نصطدم مع فراع تشريعي مرة أخرى يضرب بشكل صارخ حق المرأة بعد وفاة زوجها أو طلاقهما.
ومن الواجب وفقا لما سبق أن يتم التنصيص على طريقة تعويض الزوجة بعد افتكاك عصمتها عن ما ساهمت به من عمل منزلي وتربية للأطفال و تقديم المشورة لزوجها ومدى الاستقرار النفسي والأسري الذي توفره له ..
ويمكن التنصيص على الزام الهيئة القضائية بضرورة الاستناد في تحديد قيمة هذا الكد و السعاية بناء على تقرير مفصل من المساعدينالاجتماعيين يحدد حاجيات هذه المرأة بعد الطلاق في تناسب مع مجهوداتها طيلة مدة الزواج .
ثامنا تمكين الأم الحاضنة من الولاية على أبنائها، واستمرارية حضانتها رغم زواجها، و من منطلق النساء شقائق الرجال، و تكريسا لمبدأ المناصفة ومساواة المرأة بالرجل، أصبح من الضروري مراجعة باب الولاية على الأبناء.
ومن ضمن هفوات مدونة الأسرة في هذا السياق منح النيابة الشرعية على الأبناء بعد الطلاق للأب حصرا، ما يطرح أكثر من إشكال على مستوى الممارسة، فالنزاع المستمر بين الطليقين يروح ضحيته الأطفال، حيث يمتنع الأب عن تدبير أحوال الطفل بحكم نيابته الشرعية عليه وتبقى الأم في حيرة من أمرها لانعدام ولايتها.
كما أن السفر بالمحضون خارج المغرب أو تسجيله بمدرسة للتعليم أو نقله منها يحتاج لموافقة من الأب ، وهو ما يطرح أكثر من إشكال عندما يكون الأب مريض نفسيا أو فاقد لأهليته أو متهورا ، أو يكون المحضون مريضا ويحتاج إلى العلاج بالخارج.
أما بالنسبة لموضوع سقوط الحضانة عند زواج الأم الحاضنة فهو الآخر وجب إعادة النظر فيه، ومراعاة المصلحة الفضلى للمحضون بدل تقييد حق الأم في الزواج.. و هذا يعيد مطلب التنصيص على إشراك المساعدين الاجتماعيين في تحديد البيت الذي يصلح للابن المحضون العيش فيه بكرامة و راحة .هل بيت الأم المتزوجة .. أم بيت الأب المتزوج .
تاسعا العلاقات الرضائية وإشكالية لحوق النسب خصوصا بالخبرة الجينية كوسيلة من وسائل ثبوت النسب، فإن موضوع العلاقات الرضائية مرتبط أساسا بمجموعة القانون الجنائي، الذي لازال حبيس رفوف الحكومة .. لكنه مرتبط من حيث المآل بمدونة الأسرة، فتنظيم النسب في مدونة الأسرة مقيد نوعا ما، ولا يمكن إثبات النسب خارج مؤسسة الزواج “فالولد للفراش”.
ولكن هناك من يرى اجتهادات إضافية في هذا الباب وجب التنصيص عليها بالمدونة مستقبلا ..منها تقارير جينية تؤكد إثبات النسب بدقتها تصل 99% .. و عليها أصبح لزاما إعادة النظر في مواد النسب. و هناك من يرفض إثبات النسب بناءا على الخبرة الجينية .
فهل يمكن اعتماد الخبرة الجينية كوسيلة من وسائل ثبوت النسب يطال جميع الأطفال بغض النظر عن نوع العلاقة التي جمعت أوليائه ؟ هذا هو السؤال يطرح نفسه بعمق على المؤسسات الدستورية المختصة لتقول رأيها، وهكذا فلحوق نسب الطفل أصبح سؤال جوهري في إصلاح المدونة لكونه يضمن له استقرارا اجتماعيا من حيث البنوة أولا ومن حيث النفقة ثانيا. و نرجو ان تعتمد المدونة في نصوصها المقبلة هذا الاجتهاد .
وعاشرا المساواة في الإرث، ويغيب على أغلب الحداثيين أن منظومة الإرث في الفقه الإسلامي. من أحكم و أمثن المنظومات الفقهية .. بل يتحدى الفقه الإسلامي أي فقه أخر يقدم منظومة متكاملة و عادلة في الإرث .. فحالات إرث المرأة في الاسلام تفوق 30 حالة أغلبها ترث فيها المرأة أكثر من الرجل .. و حالة وحيدة فريدة يتيمة يرث فيها الذكر مثل حظ الأنثيين .. وهي حالة لها أسبابها المعقولة و شروطها المقبولة وعللها الشاهدة والصادقة و المنطوقة، و من الناحية القانونية فمسألة المساواة في الإرث لا يمكن الحديث عنها في غياب فتوى صادرة عن المجلس العلمي الأعلى، ما دام موضوع الإرث محكوم بنصوص قطعية الدلالة، قال تعالى:” للرجال نصيب مما ترك الوالدان والاقربون و للنساء نصيب مما ترك الوالدان و الاقربون مما قل منه او كثر نصيبا مفروضا”.
إن حقيقة المساواة في الإرث التي تدعوا إليها فعاليات المجتمع المدني خصوصا و تدعوا إلى الاجتهاد فيها من ذوي الاختصاص، فالأصول الشرعية لا تسعفهم بالقراءة السطحية المتعلقة بحقيقة المفهومين، ولا طبيعة العلاقة القائمة بينهما، فالعدل والانصاف سبيل للوصول الى أرضية علمية صلبة في الموضوع دون اللجوء إلى الشعارات الفضفاضة، فالعدل غاية ومقصد يتحقق بالمساواة كما يتحقق التباين في الأدوار والحقوق والواجبات حياة أرقى للرجل و المرأة.
إذ يجب على المؤسسات المعنية بأمر الإفتاء وتناول المستجدات، الوقوف على إشكالية المفاهيم والمقصود والغاية وتعريفها للمجتمع و تعميم مناقشتها في الفضاء العام ليتضح الحال و يصدق المقال و يتحقق المآل.
بعد تلك المقدمات الثلاثة و الفقرات الأربعة من الخطاب الملكي السامي، تأكد لنا من خلال المحور الثالث أن هناك عشر قضايا بمدونة الأسرة حسب تقديري المتواضع الهين اللين تعرف نقاشا شائكا ووعرا.. وهي في حاجة إلى نقاش مجتمعي مستفيض يدفع نحو توحيد الخلاف و إيجاد حلول، وفق منهجية عمل واضحة وضع أسسها الخطاب الملكي السامي ،و على الحكومة أن تستجمع قواها العقلية و الفقهية و القانونية و تودع دائرة الترهل والكمون، وتقدم على الاجتهاد و الإصلاح الموعود لمدونة الأسرة وتقدم للمجتمع تصور متحامل حول إصلاح المدونة قبل انطفاء شمعتها .
شارك هذا المحتوى:
إرسال التعليق