بقلم عبدالباقي البوجمعاوي
البشير… الطفولة التي اغتُصِبت باسم صمت العالم حين نقرأ تفاصيل ما جرى في موسم مولاي عبد الله أمغار، نشعر أنّ الأمر يتجاوز حدود حادثة جنائية، ويتجاوز حدود المغرب، بل يتجاوز حدود كل وطن، نحن أمام مرآة عارية للعالم، مرآة بلا رتوش ولا أقنعة، طفل صغير، هش، يتيم، لم يطلب من الحياة شيئاً سوى أن تتركه يلعب مثل باقي الأطفال، يجد نفسه محاطاً بذئاب بشرية داخل خيمة، يتحول جسده الصغير إلى ميدان عبث جماعي، وكأنّ الطفولة لم تعد إلا مادة للاستهلاك مثل أي سلعة في سوق مفتوح، ما وقع للبشير ليس مجرد اغتصاب جسدي، بل هو اغتصاب لمعنى الطفولة نفسه، الطفولة التي كانت دائماً رمزاً للنقاء والبراءة، صارت اليوم رمزاً للانتهاك والنهش، البشير ليس فرداً واحداً، إنه علامة على موت مرحلة كاملة من الإنسانية، حين يُغتصب طفل، فإنّ العالم بأسره يُعلن إفلاسه الأخلاقي، هذه ليست مبالغة أدبية، بل حقيقة قاسية: لا يوجد جدارٌ أكثر قداسة من جسد طفل، وحين يُهدم، تنهار معه كل المعاني الأخرى، لكي نفهم ما جرى، يجب أن نعود إلى الجذور، الطفولة في مجتمعاتنا – كما في مجتمعات العالم – لم تعد محمية، الفقر، الهشاشة، غياب الحماية النفسية، ثقافة الصمت، كلها عوامل تفتح الباب أمام الذئاب، في الشوارع، في المدارس، في المواسم، في البيوت أحياناً، يتحول الطفل إلى أضعف حلقة في سلسلة العنف الاجتماعي، ليس الأمر وليد لحظة، بل نتيجة تراكمات طويلة: سنوات من إهمال التربية، من تهميش الهشاشة، من تقبّل العنف كجزء من الحياة اليومية، الأدهى من الجريمة ذاتها هو الصمت الذي يحيط بها، المجتمع الذي يصرخ يومين أو ثلاثة على مواقع التواصل ثم يعود إلى حياته العادية، الناس الذين يتداولون اسم البشير وكأنهم يتفرجون على عرض جديد، ثم يتركونه يغرق في وحدته، لا أحد يسأل: كيف سيعيش هذا الطفل بعد الآن؟ أي مستقبل يمكن أن ينتظره؟ كيف سيتعامل مع ذاكرة جسد مثقوب بالألم؟ المجتمع هنا ليس حامياً بل شاهداً صامتاً، يكتفي بالفرجة، ما حدث للبشير ليس خاصاً بالمغرب، هو نسخة صغيرة لما يحدث في كل مكان، في المخيمات السورية يُباع الأطفال مقابل لقمة خبز، في شوارع مانيلا أو بانكوك، يُعرضون للسياح كما تُعرض البضائع، في أوروبا، شبكات منظمة تبيع صورهم وأجسادهم على الأنترنت المظلم، وفي إفريقيا يُجندون لحمل السلاح قبل أن يتعلموا القراءة، العالم كله خيمة واحدة، مثل خيمة مولاي عبد الله، يجتمع فيها الكبار لينهشوا الصغار، أمام كل هذا، ما الذي يبقى من الإنسانية؟ القوانين تُسنّ، المؤسسات تُنشأ، الجمعيات تُصدر بيانات، لكن الجريمة تتكرر دائماً، ما معنى أن نكرر الشعارات إذا كان الطفل لا يزال يُغتصب في الأزقة والخيام؟ كل خطابٍ عن الحماية يفقد معناه أمام دموع البشير، هنا نصل إلى العبث: كل ما بنته البشرية من حضارات وقوانين يتهاوى أمام صرخة طفل صغير لم يستطع أحد أن يحميه، البشير لن ينسى، سيكبر وجسده يحمل آثاراً لا تُرى بالعين، لكنها أخطر من الجروح الظاهرة، سيعيش مع خوف دائم، مع ارتباك داخلي، مع ذاكرة مشوّهة للثقة والآخرين، إن لم يجد من يرافقه بصدق، فإنه سيحمل داخله قنبلة موقوتة قد تنفجر في شكل انطواء قاتل أو عنف مضاد، وهنا تكمن الكارثة: اغتصاب طفل لا يدمّر فرداً واحداً فقط، بل يزرع بذور خراب في المستقبل، لأن ضحية اليوم قد تتحوّل إلى جرح نازف في المجتمع غداً، في النهاية، البشير ليس مجرد طفل مغربي، إنه رمز للطفولة العالمية المسلوبة، كل طفل يُغتصب في أي مكان هو البشير، وكل مجتمع يصمت هو شريك في الجريمة، القضية ليست محلية بل كونية: الإنسانية كلها تشهد على اغتصاب نفسها، نحن لسنا سوى ممثلين في مسرح عبثي، حيث الكبار ينهشون الصغار ثم يتحدثون عن الأخلاق والقيم، قد يتوهم البعض أنّ هذه مجرد أزمة عابرة، لكن الحقيقة أن ما وقع للبشير هو علامة على أن العالم يأكل أبناءه، هذه ليست استعارة شعرية، بل واقع يومي: الإنسانية فقدت قدرتها على حماية نفسها، وصارت تأكل لحمها الحيّ، في هذه اللحظة، لم يعد هناك ما يُسمى بالبراءة، ولا ما يُسمى بالقداسة، نحن نعيش في زمن بلا ملاذ، بلا حصون، بلا براءة، البشير ليس ضحية موسمية، بل هو إعلان نهائي عن أنّ هذا العالم انتهى منذ زمن، وأنّ كل ما تبقى هو فراغ كبير يبتلع الطفولة، الواحد تلو الآخر، طفل البشير ليس مجرد اسم، بل جرح مفتوح في قلب كل إنسان قادر على الشعور، صرخة تزلزل الضمير، دمعة تتجمد في العيون، وآخر ما تبقى من أمل يتشبث به، ولكن حتى هذا الأمل بات على وشك الانهيار، وما لم نسمع هذا الصرخة ولن نتصرف على أساسها، فإن البراءة ستُدفن إلى الأبد، وستستمر الوحشية بصنع أجيال جديدة من الأطفال الضحايا، وسنجد أنفسنا أمام عالم يبتلع أبناءه، واحداً تلو الآخر، أمام صمتنا ولامبالاتنا، نكون شركاء في اغتصاب ما تبقى من الإنسانية، وكل دمعة لم تُمسك وكل صرخة لم تُسمع هي وصمة على قلبنا نحن الذين نعيش ونتنفس بينما الطفولة تُذبح، وكل لحظة صمت منّا هي رصاصة أخرى في جسد البشير، في جسد كل طفل بريء، والخاتمة الوحشية تقول: إن لم نتوقف عن الصمت، فإننا سنصبح نحن الضحايا التاليين، ليس فقط أجسادنا، بل روحنا وضميرنا وكل ما تبقى من إنسانيتنا، وسنجد أنفسنا غارقين في بحر من الدم والعار لا يرحم، وسنكتشف أنّ العالم الذي أكل البشير سيأكلنا جميعاً بلا استثناء.
تعليقات ( 0 )