المتابعة: لحبيب مسكر
في زمن تتعدد فيه التحديات أمام الشباب، وتضيع فيه البوصلة أحيانًا بين الفراغ، والضغط، وفقدان التوجيه، تظهر تجربة التجنيد الإجباري ليس كعبء، بل كفرصة نادرة. إنها لحظة مفصلية يعيد فيها الشاب اكتشاف نفسه، ليس فقط كمواطن، بل كإنسان أقوى، أذكى، وأكثر وعيًا.
التجنيد ليس مجرد التزام إداري، بل مدرسة حياة متكاملة. داخل الثكنات، يبدأ التحول: من الفردية إلى الجماعة، من الفوضى إلى النظام، من التردد إلى الثقة. هناك، يتعلم الشاب الانضباط، احترام الوقت، العمل ضمن فريق، وتحمل المسؤولية. لكن التجنيد لا يُعيد تشكيل العقل فقط… بل يبني الجسد أيضًا.
الجانب البدني في التجنيد الإجباري يُعد من أقوى مميزاته. فمن خلال التدريبات اليومية، واختبارات اللياقة، والتحديات الميدانية، يكتشف الشاب قدراته البدنية، ويكسر حواجز الكسل والخمول. تتحسن اللياقة، وتزداد المقاومة، ويشعر المجند بأنه يستعيد السيطرة على جسده، ونشاطه، وصحته. هي تجربة تُنشّط الدورة الدموية كما تُنشّط الطموحات!
وفي قلب هذه التجربة، تنصهر الفوارق الاجتماعية. فلا يهم من أين أتيت أو ماذا تملك، الكل على قدم المساواة، في زي موحّد، وببرنامج يومي موحد. هناك، تولد الصداقات الحقيقية، وتتكوّن روابط إنسانية يصعب نسيانها، ويشعر الجميع لأول مرة بأنهم جزء من شيء أكبر من ذواتهم: وطن واحد، هدف واحد.
إلى جانب الجانب العسكري والبدني، يوفر التجنيد تكوينات عملية لا تقل أهمية: الإسعافات الأولية، المهارات التقنية، الميكانيك، الإلكترونيات، الطاقات المتجددة، والمهارات الرقمية. هذه التكوينات ليست فقط مفيدة، بل قد تكون نقطة انطلاق نحو مستقبل مهني واعد.
وفي مواجهة مشكلات مثل البطالة، والتطرف، والفراغ القاتل، يصبح التجنيد شبكة أمان. فهو لا يمنح فقط راتبًا شهريًا ولو رمزياً، بل يقدّم للشاب شيئًا أعمق: الإحساس بالجدوى، والانتماء، والقدرة على التغيير.
أكثر ما يثير الإعجاب هو التحول الجذري في نظرة الشباب للبطالة بعد انتهاء فترة التجنيد. هؤلاء الشباب الذين كانوا ينتظرون بفارغ الصبر وظيفة حكومية أو فرصة عمل محددة، يبدأون بعدها برؤية مختلفة تمامًا. فهم يدركون أن الوقت هو رأس المال الحقيقي، وأن الانتظار لا يجلب سوى الضياع. هذا الوعي الجديد يدفعهم إلى الانطلاق نحو العمل الحر، إطلاق مشاريعهم الخاصة، الدخول في عالم المقاولات والتجارة، مستفيدين من مهارات وانضباط تعلموه خلال فترة التجنيد.
وأنا ممن مرّوا من التجربة العسكرية، أقولها عن قناعة: لو أُتيحت لي الفرصة مجددًا، لَلبّيت النداء بكل حماس. اكتشفت فيها نفسي، طاقتي، وزادت ثقتي بقدرتي على التحمل والإنجاز. بل هناك شباب اليوم ممن لم يُتح لهم الالتحاق بالتجنيد، يتمنون وجود مراكز مدنية تقدم نفس برامج الانضباط البدني والذهني والتأهيل، ومستعدون لدفع المال مقابل الاستفادة منها.
في النهاية، لا تكفي السطور ولا الصفحات لسرد كل الامتيازات التي يحصل عليها المجند خلال حياته. فالتجربة تترك أثرًا عميقًا في شخصيته، وفي نظرته للحياة، وفي طريقته في مواجهة التحديات. هي شهادة حياة تُرافقه طيلة عمره، تصنع منه إنسانًا أقوى وأكثر جاهزية لمواجهة المستقبل بكل ثقة وعزيمة.
في النهاية، كل شاب هو مستقبل هذا الوطن، والتجنيد الإجباري فرصة لا تُعوّض لصقل هذه المواهب وبناء جيل قوي قادر على مواجهة تحديات الغد بثقة وعزيمة. لا تنتظر الفرصة، بل اصنعها بنفسك، وابدأ رحلة التغيير من اليوم.
تعليقات ( 0 )