عبد الله بن أهنية
Age ceiling for entering the teaching profession: effects and repercussions
في خضم الحراك الذي شهدته بلادنا في الأسابيع الماضية للمطالبة بتحسين وتجويد خدمات قطاع الصحة وكذلك التربية والتعليم والنهوض بهما كي يواكبا وتيرة النمو التي تسير بها قطاعات أخرى، تتعالى أصوات منادية برفع الحيف عن عدد كبير من الشباب وخريجي الجامعات وغيرها كي يجدوا فرصة لولوج مهنة التعليم وغيرها من القطاعات. ويقف قانون تحديد سن الدخول في مباراة ولوج مهنة التربية والتعليم وكذلك بعض المباريات الأخرى، في سن لا تتجاوز الثلاثين، عقبة في وجه من كانوا بالأمس القريب مجدين في دراستهم ومتمنين إيجاد فرصة عمل أو وظيفة بعد التخرج، للخروج من عالم التعاسة والفقر. هؤلاء ليسوا بفئة قليلة محدودة، بل هنالك العديد منهم كان يرى في نفسه الأمل الوحيد لإنقاذ أسرته من الفقر ورد الاعتبار إلى والديه اللذين عانوا الكثير من أجل مساعدة ابنتهم أو ابنهم كي يتم دراسته ويحقق لهم آمالهم. ويتساءل البعض مننهم، ولربما جلهم: كيف يعقل أن البرلماني والوزير، بل وحتى رئيس الحكومة نفسه قد تجاوز سنهم الستين وأحياناَ السبعين سنة ولم يطبق عليهم قانون تسقيف سن الولوج، بينما يقف هذا القانون كعقبة وخرسانة فولاذية في وجه العديد من الشباب ويدفعهم إلى البطالة بلا رحمة ولا شفقة.
ما المقصود بتسقيف سن الولوج إلى مهنة التعليم وسواها؟:
وبحكم اشتغالي في ميدان التربية والتعليم لمدة طويلة خارج أرض الوطن، فلربما غابت عن ذهني أشياء قد يرى فيها البعض منطقاً آخر أو يكون له رأي مخالف فيما يخص تحديد سن الولوج لمهنة التعليم في سن الثلاثين، ومن تعداها فلا حظ له في تربية وتعليم الأجيال القادمة. غير أنني لحد الآن لم استسغ نتائج هذا القرار، إذ قد يحرم من هم فوق سن الثلاثين ولو ربما بأيام أو شهور معدودة من ولوج مهنة التعليم وضمان مستقلهم. وفي ظل ما حدث في السنوات الأخيرة فيما يتعلق بالإضرابات والتوقف عن الدراسة بين الفينة والأخرى وما لذلك من انعكاسات وتأثير على مردود التلاميذ والطلاب وتحصيلهم الدراسي، تتجه الأنظار مرة أخرى، وخاصة هذه الأيام، إلى دعوة لمراجعة وتجويد شامل لمسار المدرسة العمومية وكذلك المستشفيات العمومية في بلادنا وخاصة ما يتعلق بالبنية التحتية والأطر والمعدات والتجهيزات والخدمات. بل وهنك أيضاَ مناداة لإعادة النظر في المناهج وطرق التدريس في كل من التعليم الابتدائي والثانوي بشقيه، الاعدادي والثانوي وكذلك الجامعات والمدارس العليا. وبالإضافة إلى ذلك، يرى البعض أن الاهتمام يجب أن ينصب أيضاً على تجويد القوانين المتعلقة بمهنة التعليم، وكذلك مراجعة مسألة الرواتب والمكافئات، وأيضاً برامج إعداد وتدريب الأساتذة والمعلمين. ومن باب المنطق، فمن غير المعقول أن يبقى راتب المعلم والأستاذ والمربي قابعاً أو لا يتزحزح من مكانه، وإذا حدث ذلك، فبشكل بطيء فمن خلال سلم الرواتب، بل نجد بأن راتب المعلم الشهري ربما يكون أدنى من الرواتب في مهن أخرى.
وبالنظر إلى ما وصلت إليه أمم أخرى، نلاحظ بأن مهنة التربية والتعليم لا تعتبر مصدر رزق وعيش فقط، بل هي مصدر فخر واحترام وتقدير، ربما تفوق جل باقي المهن الأخرى. ومن حق تلك الأمم إذن أن تطالب بجودة عالية ومخرجات مدرسية يحسد عليها (أنظر إلى المعطيات المتعلقة بسنغافورة أو فنلندا على سبيل المثال لا الحصر). ولذلك تجد هذه الأخيرة قد رصدت أموالا طائلة لتشييد مدارس بجودة عالية وهندسة معمارية جذابة، وفرضت على متخرجي مهنة التربية والتعليم أن يستوفوا شروط ولوج هذه المهنة والخضوع لتداريب جادة وصارمة وبمهنية في منتهى الدقة والجودة والشمولية. ومن ثم فقد اكتسبت مهنة التربية والتعليم احترام وتقدير المجتمع وبلغ بذلك المعلم المكانة المرموقة المشرفة التي أضحت طموحاً لدى شريحة واسعة من تلك المجتمعات. وبالنطر إلى تلك المجتمعات من زاوية أخرى، نجد بأنها لم تحدد سن ولوج مهنة التدريس في الثلاثين ولا حتى الأربعين!!! فما السر وراء تحديد السن في الثلاثين لدينا إذاً؟ وهل اتخذ هذا القرار بناءً على دراسات تربوية واقتصادية واجتماعية دقيقة؟ وهل أخذنا بعين الاعتبار العدد المهول للمتخرجين من شعب مختلفة، بما في ذلك العلوم الإنسانية والاجتماعية، قد تتجاوز أعمارهم الثلاثين بأيام أو شهور قليلة؟ فما مصير أولئك إذاً؟
أثار تحديد سن التدريس:
كما سبق وأن أشير إليه، فقد شهد المغرب في الآونة الأخيرة تحولا كبيرا في سياساته التعليمية، خاصة فيما يتعلق بسن دخول الأفراد إلى مهنة التدريس. ومما لا شك فيه، فقد أثار هذا القرار، أي قرار تحديد سن الالتحاق بمهنة التدريس في ألا يتجاوز عمر المرشح أو المرشحة ثلاثين سنة نقاشات بين جميع شرائح المجتمع وكذلك المهتمين بقطاع التربية والتعليم وصناع القرار والسياسات العمومية وأطر التدريس في البلاد. غير أن العديد من تلك الفئات قد أعربت بطرق شتى عن استياءها لأنها تعتقد بأن هنالك مخاوف وآثارا سلبية لهذه القيود العمرية على مهنة التدريس، وبما أن الأمر يمس فئة عمرية وطبقة الشباب الراغبين في تكوين حياة مهنية واستقرار اقتصادي واجتماعي ، فلا بأس من أن نستمد رؤى من الأدبيات ذات الصلة، وبعض آراء علماء التربية والتعليم في ذلك، ووجهات نظر مختلفة لكي نبين مدى تأثير هذا القرار على فئات جد مهمة من المجتمع.
الخبرة مقابل العمر:
لقد ناقش علماء التربية والتعليم منذ فترة طويلة ما إذا كان العمر يرتبط بشكل مباشر بفعالية التدريس، وأبانوا عن آراء مختلفة. وهكذا فقد أشارت دراسة أجراها سميث وجونسون (2019) إلى أن الخبرة، وليس العمر، هي مؤشر أكثر موثوقية لقدرات المعلم. وبذلك قد يؤدي تقييد الدخول على أساس العمر إلى إغفال المعلمين المحتملين الذين اكتسبوا خبرة قيّمة في المجالات ذات الصلة. فهل من المعقول التخلي عن مجموعة من الأشخاص قد اكتسبوا خبرة إما في مدارس تكوين أو غيرها من الميادين وقرروا ولوج مهنة التعليم. كيف لا وقد تشبعوا بتجارب ومهرات اكتسبوها إما عن طريق المطالعة والممارسة، وإما علمتهم إياها الحياة بكل أطيافها وخباياها. إذن، يمكن القول بأن اكتساب الخبرة لا يأتي من فراغ، بل إنه يتم بطريقة تراكمية مكتسبة من العار أن تذهب سدى، بل يجب منح حامليها فرصة لتلقينها وتمريرها للأجيال الصاعدة.
التنوع في التدريس:
أكد البحث الذي أجراه براون ومارتينيز (2020) على أهمية التنوع في مهنة التدريس. وحسب قولهما، فقد يؤدي تقييد الالتحاق بمهنة التربية والتعليم على أساس العمر إلى الحد عن غير قصد من تنوع وجهات النظر والخبرات داخل القوى العاملة في التدريس، مما يعيق القدرة على تلبية الاحتياجات المتنوعة للطلاب. ومما لا شك فيه أن القدرات الذهنية والقدرة على الادراك أو الاستيعاب تختلف من شخص لآخر، كما أن القدرة على توصيل المعلومة تختلف من شخص لآخر أيضاً، وبالتالي كما تختلف طرق الاستيعاب، تختلف طرق التلقين حسب شخصية المتلقي والمعلم نفسه. وحسب رأي هؤلاء الباحثين، فإننا إن حددنا العمر الذي يمكن صاحبه من ولوج مهنة التربية والتعليم، فإننا بذلك سنكون قد حرمنا فئة كبيرة من التلاميذ والطلاب من تجارب ومشارب معرفية لدى شريحة واسعة من هواة ومحبي مهنة التربية والتعليم.
الاتجاهات العالمية الحديثة:
تشير الدراسات الدولية، مثل الدراسة الاستقصائية الدولية للتعليم والتعلم (TALIS) التي أجرتها منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، إلى أن أنظمة التربية والتعليم الناجحة هي تلك التي بدون شك تعطي الأولوية لتوظيف مجموعة متنوعة من الأفراد ذوي الخبرات والخلفيات المختلفة وبأعمار مختلفة. فحسب هؤلاء الباحثين، قد يؤدي تحديد سن الالتحاق إلى قوة تعليمية من طرف فئة عمرية محددة وأكثر تجانسًا من غيرها، إلى عواقب وخيمة مما قد يحد من قضية الابتكار والقدرة على التكيف في مواجهة التحديات التعليمية المتطورة والمختلفة في آن واحد.
ومن خلال المناقشات مع المعلمين والمربين في هذا الميدان، فلا نستغرب حين نجد الكثيرين منهم قد أعربوا عن مخاوفهم بشأن القيود العمرية المفروضة على المعلمين المحتملين. كما يقول البعض، “ليس من العدل استبعاد الأفراد الذين ربما طوروا مهارات أساسية في مهن أخرى وجلبوا منظورًا جديدًا إلى الفصل الدراسي”. ويرى في ذلك آخرون إحباطا فعليا: “من خلال تحديد سن الالتحاق، فإنهم يغلقون الباب أمام الأفراد المتحمسين الذين يريدون حقاً المساهمة في التعليم. وهذا محبط للشباب”.
الآثار السلبية للقيود العمرية:
يرى العديد من المفكرين والمهتمين بميدان التربية والتعليم بأن حصر ولوج هذه المهنة في فئة محددة من الشباب دون آخرين قد يؤدي إلى نتائج قد لا ترضي الكثيرين ونذكر منها على سبيل المثال لا الحصر:
1. انخفاض الابتكار: يرى بعض الباحثين على أن تحديد سن الالتحاق بمهنة التربية والتعليم قد يؤدي إلى نقص الابتكار في طرق التدريس. غالبًا ما يجلب المعلمون من مختلف الفئات العمرية أفكارًا جديدة ومختلفة أيضا ويشجعون طلابهم حتى يكونوا أكثر استعدادًا للتجربة، مما يعزز البيئة التعليمية ويجعلها أكثر ديناميكية وجذابة.
2. فقدان الأفراد المؤهلين: قد يتم تثبيط المهنيين ذوي الخبرة من المجالات الأخرى الذين يرغبون في الانتقال إلى التدريس بسبب القيود العمرية المفروضة. وقد يؤدي ذلك إلى فقدان الخبرات القيمة التي لا تقدر تجربتها وقدراتها الفكرية وخبرتها بثمن، والتي يمكن أن تعزز جودة التعليم وترفع من قدرات المتعلمين وترفع من مكانة المدرسة العمومية ومخرجاتها.
3. أزمة البطالة: يرى الكثيرون من المتتبعين أن فرض حد سن الثلاثين لولوج مهنة التربية والعليم يؤدي، وبدون شك، إلى تفاقم أزمة البطالة بين الشباب. ومع محدودية فرص العمل، قد يواجه المعلمون الطموحون الذين يتجاوزون الحد العمري صعوبات في العثور على عمل، مما يساهم في قضية البطالة بين الشباب على نطاق أوسع، علماَ أن هذا الميدان كان دوما يشكل طوق نجاة ومصدر كسب القوت للكثير من الأسر. ماذا سيفعل شاب بلغ الواحد وثلاثين أو حتى الأربعين وهو مؤهل وقادر أن يدرس ولكن القانون الوضعي أغلق الأبواب في وجهه! من أين سيعول ويساعد أبويه وإخوانه، وكيف سيبني أسرة؟ كيف لا يحس بالإحباط والافلاس منذ البداية؟!!!
توصيات مقترحة ومفيدة:
كثيراً ما نسمع أن المرء أو حتى الأمم تستفيد من أخطائها. ومن هذا المنطلق، لا بأس من أن نعيد النظر في أولويات الإصلاح الخاصة بالمدرسة العمومية ومحاولة النهوض بها كي ترقى إلى متطلعات الأسر وتنتج لنا عقولاَ مفكرة وأفراداَ مؤهلين وقادرين على تحمل المسؤولية في بيئة صحيحة من كل الأسقام وسليمة من كل أشكال العنف والعش والفساد والجريمة. نتمنى من كل أعماقنا أن نخطو خطوات سليمة وصحيحة من أجل اصلاح جيد وبناء لمنظومة التربية والعليم، ونقترح ما يلي:
إعادة تقييم معايير العمر:
يجب إعادة النظر في معايير السن لدخول مهنة التدريس، مع التركيز على المؤهلات والخبرة بدلاً من الحدود العمرية التي قد تفوت الفرصة على الكثير من الشباب وتؤدي إلى تضخم معدل البطالة.
نهج مسارات الدخول المرنة:
تقديم مسارات دخول مرنة تعترف بالتجارب المتنوعة وتقدرها، وتنهج التشبع بالعلم والمعرفة من كل مشاربها. يمكن أن يشمل ذلك تقييم المرشحين بناءً على المهارات والمؤهلات ذات الصلة والشغف الواضح بالتعليم.
برامج التطوير المهني والتدريب الموازي:
محاولة تنفيذ برامج التطوير المهني والتكوين الشاملة، وبإشراف جدي محكم ومعايير الجودة المعترف عليها، للمعلمين من جميع الأعمار لضمان التعلم المستمر والتكيف مع الاتجاهات التعليمية المتطورة. كما يجب الحرص على برامج وورشات التدريب المصاحب أو الموازي لضمان استمرار الجودة ومواكبة العصر، مع احترام تكافئ الفرص ومكافئة وتشجيع المنخرطين والمتميزين.
تشجيع برامج الإرشاد:
إنشاء برامج إرشادية تسهل تبادل المعرفة والمهارات بين المعلمين ذوي الخبرة والمبتدئين، مما يعزز مجتمع التدريس الداعم. كما يجب خلق نوادي افتراضية وفضاءات للقراءة والنقد الأدبي كي نربي في الأجيال الصاعدة حب القراءة والانغماس في الأدب والفنون بجميع أطيافها الهادفة.
تعزيز التنوع الفكري والأدبي:
العمل بنشاط على تعزيز السياسات التي تشجع التنوع في مهنة التدريس، مع الاعتراف بقيمة العلوم الدينية والإنسانية وفضلها في تهذيب الفرد وسقل مهاراته وبناء شخصيته وتربيته على مكارم الأخلاق والتسابق في فعل الخير والإحسان. كما يجب التشجيع على احترام اختلاف وجهات النظر والخلفيات المتنوعة في حدود المعقول ودون المس بمبادئ الأمة وثوابتها، وذلك من أجل إنشاء نظام تعليمي قوي وجذاب.
معالجة البطالة بشكل كلي:
من أجل مكافحة البطالة بين الشباب، يجب على صناع السياسات والقرارات اعتماد نهج شامل يتضمن خلق المزيد من فرص العمل في ميادين مختلفة، وتعزيز برامج التدريب المهني والتدريب المصاحب أو الموازي، ودعم مبادرات ريادة الأعمال، وفتح مجالات واسعة في مجال التربية والتعليم وكذلك في مجال الصحة لاستقطاب شرائح واسعة من الشباب والتخفيف من حدة ظاهرة البطالة في المجتمع.
خلاصة:
وفي الختام، فإن تحديد سن الالتحاق بمهنة التدريس في المغرب في ألا يتجاوز عمر المرشح أو المرشحة ثلاثين سنة يشكل تحديات كبيرة وعواقب سلبية. وبالاستناد إلى رؤى علماء التربية والتعليم، وآراء بعض ممن يهمهم هذا الميدان، والأدبيات الدولية، فمن الواضح أن مثل هذه القيود يمكن أن تعيق الابتكار، وتؤدي إلى فقدان الأفراد المؤهلين وتفويت فرصة الاستفادة من خبرات من تجاوزت أعمارهم الثلاثين. وبدون شك فإن تحديد سن الالتحاق بمهنة التدريس قد تساهم في قضية تفشي البطالة الأوسع بين الشباب والدفع بهم إلى العزوف عن الزواج نظراَ لظروفهم المادية. إن مشروع اصلاح منظومة التربية والتعليم منوط بإعطاء الأولوية لنهج أكثر شمولا ومرونة مع ادماج أكبر عدد من المرشحين الشغوفين بولوج مهنة التربية والتعليم، وذلك من أجل تكافئ اجتماعي مثمر ومن أجل اعداد فرد صالح ومؤهل، مع الحث على تهج مقاربة تشاركية وعدالة مجالية تأخذ بعين الاعتبار المناطق الجبلية والمناطق النائية في القرى والمدن على حد سواء، واعداد بيئة مدرسية جذابة وسليمة، تضاهي تلك التي توجد في بعض المؤسسات الخاصة، وتجعل المعلم والمتعلم في صلب الموضوع، وتحترم جميع معايير الجودة والسلامة وتعيد للمعلم مكانته المرموقة في المجتمع.،،،
والله ولي التوفيق،،،
كاتب وباحث في مجال التربية والتعليم والثقافية
تعليقات ( 0 )