حين يغدو الأب خصماً… والبنت ضحية البيت

في مدينة مراكش، المدينة التي تحفظ في أزقتها عبق التاريخ ونبض الإنسانية، انفجرت قضية أشبه بصفعة على وجه الضمير المجتمعي. أبٌ وقف أمام المحكمة، لا ليطالب بحقٍ مغصوبٍ أو عقارٍ مسلوب، بل ليطالب بطرد ابنته من بيتٍ كان يوماً حضنها الآمن وملاذ طفولتها. رفع دعواه ببرودٍ مذهل، وكأنّه يُخاصم غريبةً لا من صُلبه.

 

استجابت له المحاكم الابتدائية ثم الاستئنافية، وكادت العدالة أن تُغلق الملف بجمود النصوص، لولا أن محكمة النقض رفعت ميزان القانون فوق نزوات القسوة، وأعادت للأبوة معناها الإنساني. قضت المحكمة بأن الأب ما دام ابنته غير متزوجة ولا تعمل، يبقى ملزماً بالسكن والإنفاق عليها، لأن السكن جزء لا يتجزأ من النفقة، والنفقة واجبة ما دام العجز قائماً.

 

قرار النقض لم يكن مجرّد حكم قانوني، بل صرخة ضمير في وجه قسوةٍ تنكّرت في ثوب الأبوة. لقد أيقظ الحكم وعياً غافلاً في مجتمعٍ باتت فيه بعض القلوب أكثر صلابة من الحجارة. فكم من أبٍ ينسى أن البنت ليست عبئاً، بل نعمةً تستحق الرعاية، وأن من يطردها من بيته يطرد البركة من عمره.

 

أي زمنٍ هذا الذي يختنق فيه الحنان داخل جدران العدالة؟

وأي قلبٍ ذاك الذي يُخاصم فلذة كبده ويستنجد بالقانون ليشرّع القطيعة؟

 

لقد قالت المحكمة كلمتها، لكنها قالتها باسم القيم قبل القوانين، وباسم الرحمة قبل النصوص. أعادت إلى الأبوّة معناها النبيل، وإلى القضاء هيبته الأخلاقية. فليس كل من أنجب يُدعى أباً، ولا كل من بنى بيتاً يُدعى مأوى.

 

إن الأب الذي يطرد ابنته من بيته قد خسر أكثر من دعواه، خسر ما هو أعمق من المال والملكية: خسر إنسانيته.

ولأن العدالة لا تُقيم فقط الأوزان، بل تُقوّم القلوب أيضاً، فقد أنصف القضاء البنت، وأنقذ الأبوّة من سقوطٍ أخلاقي كان ليكون وصمة في جبين الزمن.

شارك المقال
  • تم النسخ
تعليقات ( 0 )

اترك تعليقاً

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)