موسم على حافة الجنون : بين قديس يراقب و عابرين يتيهون 

بقلم عبد الباقي البوجمعاوي

على الخشبة: فضاء مظلم، أصوات طبول تُقرع بعنف، صرخات متقطعة، دخان يملأ المكان. في الوسط أجساد تتمايل بشكل هستيري، بعضهم يضحك ضحكة ممسوخة، وبعضهم يبكي وهو يحتك بجسد الآخر. رجل يجرّ امرأة من شعرها نحو زاوية، بينما شابان يتعانقان وسط الحضرة كمن يبحثان عن خلاص في لحظة عهر جماعي.

الراوي (بصوت قاسٍ، ساخر):

هنا… حيث يُقال إن البركة تنزل.

هنا… حيث يتحدثون عن وليٍّ صالحٍ وكراماتٍ عجيبة.

لكن ما الذي أراه؟!

أجساداً عارية من الروح، غارقة في رجسٍ لا يختلف عن حظائر البهائم.

أهذا ذكر؟ أم مسرح للجسد؟

أهذا توحّدٌ مع الله؟ أم سقوط في حضن الشيطان؟

تعلو الطبول، يصرخ أحد المشاركين وهو يسقط أرضاً، يزحف على بطنه نحو امرأة ترتعش في النشوة.

الراوي (صارخاً):

أهذه زرهون؟! أهذه أرض الأولياء؟!

ما أشد قسوة المفارقة: باسم القداسة تُرتكب الفاحشة، وباسم الذكر تُنتهك الأجساد، حتى المثلية تتسلل بين الصفوف كجرحٍ مفتوح، فلا سلطة تردع، ولا عقل يفيق.

إنه مسرحٌ شيطاني مقنّع… حجابه القداسة، وحقيقته النجاسة.

إظلام… تبقى الطبول تُسمع من بعيد، كأنها صدى جهنم.

هنا، في قلب زرهون، يقام موسم سيدي علي بنحمدوش، احتفال يقال إنه صوفيّ، وإنه تكريم لوليّ عاش قبل قرون، لكنه في الحقيقة ليس سوى مسرح للجنون الجمعي حيث تُباع الأوهام ويُشترى الوهم. علي بنحمدوش، الرجل الذي عاش في زمن آخر، كان صوفياً في سيرته باحثاً عن الله بالذكر والورع، لكن قبره تحوّل إلى مسرح رخيص للشعوذة وذكراه صارت حجة لتبرير طقوس تنتمي أكثر إلى عبادة الظلام منها إلى نور التصوف.

ما يحدث في هذا الموسم ليس تديّناً شعبياً كما يصفه البعض، بل سقوط أخلاقي وروحي. طقوس تُستباح فيها أجساد النساء باسم “العلاج” تُذبح الحيوانات لتُلطّخ دماؤها الرؤوس كما لو أن الدم يطهّر الأرواح، يُباع البخور والزيوت كأنها مفاتيح للخلاص وتتحول ساحة الضريح إلى سوق عكاظ للخرافة. والأخطر أن بعض الخيام تُحوَّل إلى بيوت دعارة مقنّعة، حيث تُمارس الفواحش بما فيها ممارسات مثلية شاذة، يُبرّرها الشيوخ على أنها “حالات خروج عن الوعي” أو “تلبّس من الجن” بينما هي في الواقع انتهاك صريح للكرامة البشرية واستغلال للضعف النفسي والاجتماعي. إنها مشاهد تنتهك الكرامة الإنسانية، وتُكرّس عبودية جديدة للجهل، عبودية يضحك الشيطان ملء فيه وهو يرى البشر يسجدون له بالرقص والنحيب.

لكن، لماذا تستمر هذه الطقوس؟ هنا يحضر البعد الأنثروبولوجي: المجتمع المغربي، مثل مجتمعات أخرى، ورث عبر القرون حاجةً إلى طقوس جماعية تُنفّس عن القلق الوجودي عن الخوف من الموت، عن عجز الإنسان أمام قسوة القدر. موسم سيدي علي بنحمدوش ليس سوى مرآة لهذا العجز. إنه لحظة يتصالح فيها الفرد مع هشاشته عبر الرقص والدم والجنس المحرّم، عبر الانغماس في الجنون الجماعي الذي يخفّف من ثقل الأسئلة الكبرى. الفيلسوف الفرنسي إميل دوركايم تحدث عن الطقوس الجمعية كوسيلة لإعادة إنتاج التضامن الاجتماعي، لكن ما نراه هنا ليس تضامناً بل تفككاً؛ إنه إعادة إنتاج للجهل، وصناعة متجددة للوهم، وإطلاق العنان لرغبات مكبوتة تتخفّى وراء أقنعة الجن.

إنها فلسفة بائسة للوجود: حين يُحرم الإنسان من العلم والتعليم يبحث عن الطمأنينة في أحضان الجن والشهوات. حين تغيب الدولة في مسؤوليتها التربوية، يملأ الفراغ “الشيخ” و”المشعوذ” و”المنحرف”. حين يتخلى المثقف عن دوره، تصبح الطبول هي المعلم، والصرع هو الدرس، والفاحشة هي المتنفس. ما يجري في موسم سيدي علي بنحمدوش هو درس قاسٍ عن مجتمع ترك عقله على قارعة الطريق وراح يعبد شهوة الانفلات.

إن هذا الموسم عار. عار على الدولة التي تتفرج وتسمح لهذه الطقوس أن تتكرر تحت حراسة أمنية صامتة، وكأن وظيفتها أن تضمن سلامة الشيطان وهو يمارس لعبته. عار على المجتمع المدني الذي يملأ الدنيا خطابات عن الحداثة والحقوق ثم يصمت كالميت حين يتعلق الأمر بفضح شعوذة علنية. عار على الإعلام الذي يبيع الموسم كـ”فولكلور” للتسويق السياحي بينما هو في الحقيقة مأتم للعقل.

لا يمكن مواجهة هذا العار إلا بقرارات صارمة: الدولة مطالبة بمنع هذه الطقوس لا التواطؤ معها، والمجتمع المدني الحقيقي لا المزيف ملزم بفضحها لا الصمت عليها، والمدرسة مطالبة بزرع قيم العقل والعلم بدل ترك التلميذ ينشأ على تمجيد الجن. أما التصوف الحق، فهو وحده القادر على إنقاذ الروح من هذا العبث، لأنه ذكر لله لا رقص للشيطان، ولأنه دعوة إلى النور لا استغراق في الظلام.

موسم سيدي علي بنحمدوش ليس إرثاً، بل لعنة. وإذا لم نجرؤ على قول هذا علناً، فإننا شركاء في الجريمة. آن الأوان أن يُسدل الستار على هذه المهزلة، وأن تُدفن الخرافة مع من اخترعها. لأن الدم لا يطهّر والرقص لا يشفي، والمثلية في خيام الليل لا تخلّص من الجن، بل تُثبت أن الشيطان صار هو الوليّ الحقيقي لهذا الموسم

شارك المقال
  • تم النسخ
تعليقات ( 0 )

اترك تعليقاً

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)