في لحظةٍ اختلط فيها النبض بالدمع، وامتزج فيها المجد بهتاف الملايين، سَطّر أسود الأطلس فصلاً جديدًا في سفر المجد العالمي، معلنين للعالم أجمع أن الحُلم المغربي قد صار حقيقة ناطقة على أرض دولة “تشيلي”، فمن رمال الأطلس، ومن عمق التاريخ، جاء رجال عاهدوا الله والوطن على البذل والعطاء، وأقسموا أن لا يعودوا إلا والتاج بين أيديهم، وها هو اللقب العالمي، الذي طالما بدا بعيدًا كالنجم، يُوشّح جبين المغرب، ويُزهِر في سماءه كرايةٍ للنصر والخلود.
أيها العالم..
قِف احترامًا لوطنٍ لا يعرف المستحيل، ولشعبٍ يصوغ الأمل من صبره، ويغزل الفرح من دمع الانتظار، قِفوا إجلالًا لمنتخبٍ كتب اسمه بماء الذهب، وانتزع التتويج من بين أنياب الكبار، فصار المغرب، رقما ذا عيار ثقيل، رافضا أن يبقى مجرد مُشارك، بل ملكًا متوّجًا على عرش الكرة الأرضية، فليُرفع العلم، ولتُقرع الطبول، ولتُغنِّ الأجيال للمجد القادم من المغرب… فهنا وُلد الحلم، وهنا تحقّق!
ومما لا شك فيه، أن يومٍ العشرين (20) أكتوبر 2025، سيظل خالدا وسيبقى محفورًا في ذاكرة التاريخ، يومٌ انحنى فيه المجد إجلالًا لأسود الأطلس، ودوّى اسم المغرب في أرجاء المعمور، معلنًا فوزًا ليس ككل فوز، بل ملحمة وطنية خالدة كُتبت بعرق الجبين وبحبر العزيمة، وسُطّرت على صفحات المجد في ملاعب كأس العالم للشباب بدولة “التشيلي” بأمريكا الجنوبية.
ها هو المغرب، بلد الحضارة والكرامة، يتوّج بطلًا للعالم، بعد جهد جهيد، وكد وسعي متواصل، لا مكان فيه للصدفةً ولا للمجاملة، فالنصر انتزعه الشباب بحقٍ من بين أنياب المستحيل، وتوجوا أبطالا بتضحيات رجالٍ آمنوا أن المستحيل بعيد كل البعد عن قاموس من وُلدوا تحت شمس الأطلس، وسُقوا من ماء النخوة، وتربّوا على عشق راية حمراء تتوسطها نجمة خضراء.
وفي ملاعب “تشيلي”، حيث اجتمعت قلوب الأمم، كانت نبضات قلوبنا نحن المغاربة تخفق بشكل خاص، وتصدح مع كل تمريرة، وتنبض مع كل هدف، وتذرف دموع الفرح مع كل انتصار، فالأمر لم يكن مجرد بطولة، بل كان وطنًا ينهض، وأمةً تتنفس الحلم.
لقد لعبوا باسمنا جميعًا، وبأسماء من لم تصل أيديهم للكرة، لكن قلوبهم كانت معهم في كل شبر من الميدان، حملوا آمال الشيوخ الذين دعوا في السحر، ودموع الأمهات أمام الشاشات، وهتافات الأطفال في الأحياء والأزقة، وتشجيعات المواطنين والساكنة في المداشر والقرى، فكانوا بحق أمناء على الرسالة، أوفياء للعهد.
وها نحن اليوم نكتب التاريخ بحروف مغربية، ونردّد للعالم: نحن هنا، لا نطلب مجدًا من أحد، بل نصنعه بأيدينا، فلتشهد “تشيلي” ولتشهد الأمم أن المغرب لم يعد ضيفًا على البطولات، بل صار سيّدها، وقلبها النابض، فلترتفع الأعلام، وتُقَرع الطبول، وتُروى هذه القصة للأجيال القادمة: أن في عام النصر، وفي أرض بعيدة تُدعى “تشيلي”، ارتفعت راية المغرب خفاقة، وعانقت عنان السماء، وفي زمنٍ يضجّ بالأسئلة الكبرى، وتغشاه سحُب اللايقين، حيث تمضي الأمم تتلمّس طريقها وسط الأزمات المتلاحقة، اختار المغرب أن يكتب فصلًا مختلفًا، لا بل أن يُوقّع على لحظة من التاريخ تُشبه الحلم، وتفيض بالمعنى… لحظة فرح استثنائي، لا يشبه غيره، لأنه لم يأتِ من فراغ، بل من رحم العمل، والإيمان، والاستثمار في الإنسان.
لقد عانق الوطن المجد من أبوابه المتعددة، فإذا بالشباب المغربي يُهدي للبلاد ولملك البلاد تاجًا عالميًا طال انتظاره: كأس العالم للشباب، الذي لم يكن مجرّد انتصارٍ رياضي، بل إعلانًا صارخًا بأن هذا الجيل، الذي طالما نُظر إليه بريبة، قادر على بلوغ القمم إذا مهدت له السُبل، وإذا آمن به الوطن، وإذا آمن هو بالوطن كما آمن بنفسه، فاللحظة كانت – وبكل صدق- أكثر من هدف وأكثر من راية وأكثر من ذهب… كانت اختصارًا للوطن في فرحته الكبرى.
ومن جميل الصدف كذلك، أن الفرح المغربي لم يقف عند حدود المستطيل الأخضر، وعند الكرة المستديرة، بل تجاوز كل ذلك إلى لحظة متزامنة، ومعزوفة وطنية عابرة للقطاعات وللحكومات والانتدابات، أُعلن فيها جلالة الملك عن إقرار زيادة غير مسبوقة في ميزانية قطاعي الصحة والتعليم، لتبلغ 140 ألف مليار درهم، في مشهدٍ يُشبه التأسيس الثاني للدولة الاجتماعية بالمغرب، وهي لحظة فارقة لم تكن فيها الأرقام مجرّد حبرٍ على ورق، بل انعكاسًا لإرادة عليا، جسّدها جلالة الملك محمد السادس خلال ترأسه للمجلس الوزاري عشية يوم التتويج العالمي، واضعًا الإنسان المغربي في صُلب الرؤية التنموية، كما أجابت على جملة من الأسئلة التنموية الكبرى للوطن، ومن بينها إحداث 27 ألف منصب شغل في قطاعي الصحة والتعليم، في خطوة غير مسبوقة، تعكس التحول من الخطاب إلى التطبيق، ومن الشعارات إلى الإصلاح العميق.
وموازاة مع كل ذلك، وانسجاما مع هذا النفس الجديد، أُطلقت بلادنا جيلا جديدا من برامج التنمية المندمجة، ستساهم بلا شك في مواكبة التحول العميق الذي تعرفه عدة قطاعات، كما ستنقُل الفعل التنموي من منطق الدعم الظرفي إلى أفق التمكين الشامل والمستدام، ومما لا شك فيه أيضا أن البعد الترابي لم يكن ليُستثنى من هذا الزخم الوطني، فبوّابات التنمية فتحت في كل جهات الوطن، ولعل أبرزها الإعلان عن افتتاح المستشفيين الجامعيين بكل من أكادير والعيون، وتهيئة 90 مستشفى على امتداد التراب الوطني، في رسالة واضحة بأن كل بقعة من الوطن لها حقّها في الرعاية، والكرامة، والأمل.
إنه فرحٌ وطني بامتياز، تتكامل فيه الدلالات، ويتعانق فيه الحلم بالسياسة، والشباب بالحكمة، والماضي بالمستقبل، فرحٌ يؤكّد أن المغرب، رغم ما يعصف بالعالم من توترات، ماضٍ في طريقه بثقة وهدوء، لا إلى النجاة فقط، بل إلى الارتقاء.
نعم، إلى الارتقاء.. فالوطن حين يُصغي لصوت شبابه، لا يمكن إلا أن يحقق أعلى درجات الرقي والازدهار، فالوطن بهذا المعنى لا يُنصت فقط إلى الكلمات، بل يُنصت إلى الحلم، وإلى نبض الغد، وإلى ملامح وطن يُراد له أن يكون أقوى وأعدل وأجمل.
فصوتُ الشباب ليس ضجيجًا، بل هو بوصلة، وليس تمردًا، بل هو شغف بالوطن.
هو نبض الساحات، وصدى الجامعات، وهمس المقاهي، وزخم الشوارع.
هو السؤال الحائر والإجابة التي لم نكتبها بعد.
هو الأمل حين يتعب الأمل، وهو الإيمان حين يتردد الإيمان، وهو العمل حين نريد العمل.
والمغرب، حين يُصغي لصوت شبابه، يُعلن أنه وطنٌ لا يُدار بالوصاية، بل بالشراكة، وطنٌ لا يكتفي بأن يعلّم أبناءه كيف يحلمون، بل يمنحهم فرصة تحقيق الحلم.
فليفرح الوطن، وليُسطّر أبناؤه هذا المجد التليد، وهذا الفصل الجديد بحروف من نور، ولنعلم جميعًا أن الفرح المغربي الذي تحقق اليوم على كل الجبهات، ليس مجرّد نشوة عابرة، بل هو مشروع حياة… تُبنى فيه الأوطان من جديد.
خلاصة القول، أن فوز المغرب بكأس العالم لم يكن مجرد انتصار رياضي لشباب الوطن، بل كان انعكاسًا لروح لا تنكسر، ورجع صدى لإرادة شعب لا يعرف المستحيل، ولطموح أمة صاغت المجد على المستطيل الأخضر، ووحّدت القلوب خلف راية الوطن، اختلطت فيها دموع الفرح بدموع الفخر، فكان الملعب مرآة لوطن يعرف كيف يحلم، وكيف يُحقق الحلم.
ولم يكد صدى الفوز يخفت، بل كان المجد في الميدان متوازيًا مع الكرامة والتنمية المنشودة، وهكذا، تحوّل الانتصار الكروي إلى شرارة لنهضة وطنية تنموية شاملة، يؤمن فيها المغرب أن البطولة الحقيقية لا تُقاس بالكؤوس فقط، بل بالاستثمار في العقول، وبناء المدارس، وتجهيز المستشفيات، وتمكين الشباب ليكونوا أبطالا في كل الميادين.
تعليقات ( 0 )