مع الحدث
تحرير ✍️ : ذ عبد الباقي البوجمعاوي
لم تُخلق المرأة سلعة، ولم تكن يومًا جسدًا يُعرض ويُشترى، ولم تكن الأنوثة يومًا وصمة تحتاج إلى نزع، ولا الأمومة سجنًا يستوجب الفرار منه. بل كانت المرأة، في لحظة الوجود الأولى، كائنًا مشعًّا، متصلًا بالفطرة، محكومًا بالحياء، مسكونًا بالعطاء، لا يعتذر عن رحمٍ وهبه الحياة، ولا يخجل من دمعةٍ تختزن رهافة قلبه. فمن ذا الذي سرقها من نفسها؟ من أقنعها أن أنوثتها عبء؟ أن حياءها عيب؟ أن الأمومة تخلف؟ من أقنعها أن التحرر يمر من بين فخذيها، لا من عقلها وروحها؟ من ذا الذي قال لها: إن العري انتصار، وإن الاحتشام ضعف، وإن الرجل خصم، وإن الحب وهم، وإن العائلة فخ؟
سرقة المرأة لم تكن وليدة الصدفة، بل مشروعًا طويل الأمد، بدأ بخنق الذاكرة، ثم بتر الجذور، ثم التلاعب بالمفاهيم. قيل لها إن الإسلام ظلمها، وإن الدين يجلدها، وإن الحجاب خيمة، وإن الزواج قيد، وإن الطلاق تحرر، وإن المساواة تعني التشابه، وإن الجسد ملكٌ لا يعرف غير الرغبة قانونًا. وهكذا، شيّأت النسوية المرأة، نعم، النسوية التي بدأت يومًا بمطالب مشروعة، ثم انقلبت على ذاتها، وصارت أداة بيد النظام النيوليبرالي، تسوّق للجنس، وتخدّر باللذة، وتدفع بالأنثى نحو تحرر كاذب لا يلد سوى الندم.
تاريخ المرأة لا يبدأ مع الموجات النسوية، بل أقدم من ذلك بكثير، وقراءته لا تمر فقط من الغرب. في المجتمعات القديمة، كانت المرأة كاهنة، حكيمة، ملكة، صانعة حياة. ولم تكن الأنوثة ضعفًا، بل رمزًا للخصب، للحكمة، للخلق. وفي الإسلام، حين أتى الوحي، لم يُقصِ المرأة، بل أعادها إلى مكانها الطبيعي: مكرّمة، عاقلة، مسؤولة. نزل الوحي على رجل احتضنته امرأة، وعاش النبي ﷺ مع نساء علّمن، قاتلن، خطبن، بَنَيْنَ المجتمع جنبًا إلى جنب مع الرجال. فجعل لها الحق في التعليم، والتملك، والتوريث، والطلاق، والمشاركة. لم يجعلها تابعًا، بل “شقًّا” كاملًا من الرجل: “النساء شقائق الرجال”.
ثم جاءت النسوية، لا لتُصلح الخلل، بل لتُخرّب الأصل. جاءت لتنتزعها من سياقها الحضاري والروحي، لتقذف بها في سوق استهلاكي لا يرى فيها سوى مستهلكة أو منتَجًا. دُفعت الأنثى إلى اختزال نفسها في جسدها، في مفاتنها، في مدى قدرتها على إثارة الآخرين. أصبحت المرأة تُقاس بما تكشف، لا بما تحتجب، بما تملك، لا بما تُشعر، بما تتمرد عليه، لا بما تتصالح معه. حتى صار الحياء موضة قديمة، والعفة قيدًا، والرغبة قانونًا، والاستقلال وهمًا تُدفع فيه الأنثى إلى عزلة قاتلة، لا تجد فيها لا حبًا حقيقيًا، ولا أسرة حاضنة، ولا طفلًا يمنحها معنى، ولا رجلًا يُنصت إلى ألمها دون أن يبتز جسدها.
والطامة أن النسوية لم تكتفِ بسرقة المرأة من رجلها، بل سرقتها من أمها وجدتها وأختها. نزعت منها ارتباطها الطبيعي بالأنوثة كما توارثتها النساء عبر العصور. بل شوّهت كل نموذج تقليدي ناجح، وسخرت من كل أم ربّت، أو زوجة ضحّت، أو فتاة آثرت الحياء على الجهر. ثم قدّمت لها نموذج “المرأة القوية” على شاكلة ذكور متنكرين: صوت مرتفع، وجسد مستعرض، وشتائم، ورفض لكل ما يربطها بالأمومة أو الرحمة أو الشراكة.
سُرقت المرأة حين صدّقت أن الإسلام عدوها، لا عِزّها. سُرقت حين صدّقت أن حريتها لا تكتمل إلا إذا صارت جسدًا بلا روح، وصوتًا بلا حياء، وكيانًا بلا ذكر. وسُرقت أكثر حين تركت حقيقتها واستبدلتها بقوالب استيراد جاهزة، تُصنع في مختبرات الغرب، وتُباع في إعلانات الإنستغرام، وتُروّج في ندوات بتمويل أجنبي، وتُشرعن عبر نُخَب مسكونة بعقدة النقص تجاه الذات الحضارية.
وهكذا، وباسم التحرر، تحوّلت المرأة إلى سلعة، وباسم المساواة صارت مشوهة، وباسم القوة صارت منفصلة عن نفسها، تعيش وهمًا كبيرًا اسمه “الاستقلال”، بينما هي مصلوبة على جدران الوحدة، والاكتئاب، والعلاقات العاطفية الفارغة. أما الرجل، فلم يعد شريكًا، بل هدفًا للكراهية، ولومًا دائمًا، وكأن كل فشل أنثوي هو بالضرورة “نتاج نظام ذكوري”.
المرأة ليست ضحية الرجل، بل ضحية مشروع فكري مدروس جرى هندسته بعناية، ليُنتج نموذجًا هشًا، مستهلكًا، تائهًا، يقطع مع تاريخه، ويخجل من دينه، ويعارك جسده، ويُساق طواعية إلى سوق العري والمتعة واللا انتماء. ومن هنا، فإن استعادة المرأة لذاتها لا تمر عبر شعارات النسوية، بل عبر نفض الغبار عن ميراثها الروحي، والرجوع إلى أنوثتها الصادقة، لا المستوردة.
إن هذه السلسلة لا تُكتب ضد المرأة، بل لأجلها، لأنها لا تستحق أن تُباع في أسواق الشعارات، ولا أن تُستخدم كذريعة في صراعات أيديولوجية دنيئة، ولا أن تُعامل كحقل تجارب لكل منظومة تغريبية جديدة. المرأة كائن روحي، خُلقت لتُحب، وتُحتضن، وتُعزّ، لا لتُصفّق لأوهام الحرية وهي تمشي نحو الهاوية.
ومن سرق المرأة؟
النسوية، بلا مواربة.
والقادم سيكون تفصيلاً لهذه الجريمة، شاهدًا عليها، ومرافعة من أجل خلاص المرأة من أدوات تحريرها الزائفة
يتبع ….
تعليقات ( 0 )