الاستاذ عدي السباعي يكتب: وداعا ايها الزعيم ……

يعتبر أحرضان من أبرز الأسماء الأكثر إثارة للجدل في الحقل السياسي الوطني .. فهو تاريخ يمشي على قدمين … بل هو بذرة تزرع المستقبل في كل لحظة وحين … هو أيضا كمياء تتعايش فيه أمجاد الأمس وإنكساراته، بتطلعات لا تعرف اليأس والملل نحو الغد المرتقب… إنه تركيبة من المتناقضات المنسجمة … تناقضات تتناغم أفقيا في شخصه… وتمتد عموديا في رؤيته للعالم والأشياء… رؤية تعزف لحن البساطة المعقدة… فالبساطة خطابا وسلوكا هي عنوان شخصيته، لكنها بساطة تستعصي على المقاربة والتأويل .. فالحديث معه أو عنه هو في السطح مسلك معبد سرعان ما ينغلق في متاهة تجذبك نحو حفر أركيولوجي لا متناهي، نحو عمق لا ينتهي إلا ليبدأ… فقاموس أحرضان أشبه ما يكون بضوء تلمع شرارته من فرط البساطة ولكن جاذبيته عادة ما تفتح بابا مشرعا على فتنة التأويل، لتصبح الكلمات في مبناها ومعناها لغة خارج الكف وخارج المتناول…. وهنا تبدأ المغامرة…

أحرضان.. خطابا وفكرا هو نواة يتزاوج فيها دهاء أحرضان السياسي بجرأة أحرضان الجندي …. ويتعانق فيها حس أحرضان الشاعر بريشه أحرضان الفنان… لينصهر الكل في جبة أحرضان الفلاح… فمعه تصبح المغامرة وجها آخر للممكن… بل تصبح المغامرة نمط حياة… كينونة تتشخصن في سيرة أراد لها أحرضان أو أريد له أن تكون ثورة ضد السكون… إختراقا لأشياء العالم الدائرية والمقوسة … سيرة تحمل في ذاكرتها وأفقها جينات تمرد على المعهود… ولهيبا ضد المألوف والمبتدل….. لا يمكن لكل من عاشر أحرضان أو احتك به الا ان يلمس هذا الجمع في صيغة المفرد المميز لشخصيته وفكره الذي لا زال مستعصيا على التدوين، لأنه فكر يعيش على ماء الاستعارة ويتغدى من طين الكناية…. فكر يصنع أداوته من قوة الرمز وإغراء البلاغة … فتصادف دوما في مواقفه كما في أشعاره أو لوحاته إنزياحا عن الألفباء وجنوحا نحو اللامعنى أو على الأقل نحو المعنى المتمنع عن الإدراك، ففي مغناطيسية لوحاته التشكيلية… كما في مواقفه وتصريحاته السياسية من الصعب الإمساك بخيط الدلالة، كما من السهل أن تتورط في لعبة الطين والماء، فأحرضان عاشق للتراب الذي ليس في العمق سوى إكسير الحياة… ففكره من تراب… وإختياراته الرمزية ذات عمق ترابي… بل ريشته يد من تراب… لهذا ليس غريبا أن يأخذ الوطن كل مساحات وجدانه .. وأن تكون الأرض سرا لوجوده… معه لا بد وأن تعزف نشيد الوطن وأن يأسرك عشق مقدسات هذا الوطن وأن تحولك نظراته ترابا يحن إلى التراب … معه أيضا … لا معنى للأرائك… ومعه سيعديك بحقد الصالونات الزجاجية… وبحقارة المواقع الزائفة والزائلة ، معه ستتنازل قسرا على إغراءات البذلة وصنمية المنصب وزيف رابطة العنق لتغوص في أصالة تعانق العصر…. أصالة تحمل بصمات هذا المغرب العميق والعريق القادم من بعيد … معه لا يمكن إلا أن تعتز بالإنتماء لهذا الوطن العظيم.

مع أحرضان، ستدرك لا محالة أن العلامات أقوى تعبيرا من الكلمات، معه وقربه ستعلم علم اليقين أن الساقط في البئر لن يتمكن من الصعود إلا بعد بلوغ القاع، معه ستدرك أن الزعامة مثل نار الشتاء، كلما اقتربت منها نالك الحريق وكلما ابتعدت عنها لسعك البرد والصقيع، معه يكفيك النظر قي عينيه ليأسرك عبق التاريخ، وتتناسخ جينات الدهشة والتردد شجاعة وكرامةـ لا يمكنك وأنت تجالس أحرضان بقامته القصيرة ورشاقته المعهودة ونظراته المثيرة إلا أن تنجذب نحو سراديب ومجاهيل تزداد إنغلاقا كلما وسوست لك نفسك انك قريب من كشف قامة تاريخية وسياسية لا طول يحاصرها ولا عمق يحدها…

أحرضان مثل الظل… قريب في بعده، بعيد في قربه….. مدرسة تعلمك كل الدروس في درس… وتختصر الرسالة في عنوانها، معه ستتعلم أن السياسة مثل الحرث بالديك، إذا تركته أكل الزرع وإذا نغزته أسقطت مصارينه، معه ستكتشف أن السفر ليس رحلة في الزمن، بل جولة أنتروبولوجية، تعلمك معنى الأماكن، وأسماء القبائل، لا يمكن وأنت تسافر معه نحو المغرب العميق إلا أن يستوقفك في الطريق حاملا علبة صباغته ليمحو كل تحريف للأسماء وحتما ستتوقف في أعالي تيزي نتلغمت ليمحو بريشته كلمة فج، دون أن يكل أو يمل، كلما بعث الفج حيا ليشوش على تيزي الأصيلة، مع أحرضان ستعلم أن دكالة والشاوية من مهد أمازيغي عريق وإن فقدت لكنتها الاصلية في دروب الحياة، معه وبرفقته ستدرك أن الشيطان لا مرادف له في اللغة الأمازيغية ولا في كل لهجاتها عكس كل اللغات ، كما الحقد والحسد والكره ، معه وبرفقته ستدرك وهو الغيور على وحدة الوطن ومقدساته أن الصحراء كلمة مركبة ( الصح -راه ) وان المسيرة هي كلمة مركبة la masse- Ira أو القاعدة تسير، معه وبمجالسته ستكتشف حتما الحقائق المغيبة في مسار المغرب المستقل، حقائق طمسها إعلام خصومه السياسيين، وسترتها أباطيلهم حتى صار الخطأ الشائع خير من الصواب المهجور، معه ستتعلم أن الحداثة قيم وأنت تراه كيف يخاطب مختلف الأجيال، وينهل من قواميس تخاطب الناس على قدر عقولهم، وحتما ستنبهر به وأنت تراه فخورا بعمامته وخنجره الأصيل، يجادلك بلسان فرنسي فصيح، أو تراه بلباس شبابي أخاد يحاور خريجي الجامعات، وحتما كذلك ستفخر برفقته وهو يصر على حضور كل مآتم ليقدم العزاء في قمم الجبال ويواسي في كل فقيد كبر أو قل شأنه، ففي مجلس أحرضان لا مكان للمقامات، ولا وزن للمواقع، فوحدها المواقف هي الميزان، مع أحرضان وفي فلسفته فالوطنية أكبر من المواطنة، وحب الوطن والعرش فوق كل حساب، ومعه وأنت تعاشره ستدرك حتما أن الأشجار أعمدة الأرض، والأعيان أوتاد القبائل، والقبائل أمهات المدن، وأن قطرة ماء الجبل، وعرق ابن البادية هما مصدر خبز المدينة حيث صارت الحومة قبيلة مصغرة.

في حياة أحرضان رحمه الله، لكل كلمة معنى، ولكل إشارة دلالة، بما فيه إسمه أحرضان، فهو نقيض ذاته، لكن هو ثمن حياته.

لقد رحل الزعيم بجسده لكن بصماته ستظل خالدة بيننا بلوحاته ، وكتبه وسيرته الممتدة، فلترقد روحه بسلام ، ولينم قرير العين في مرقده الأبدي لأنه أدى الرسالة وبصم المسار وخلد ذاكرة ستتناقلها الأجيال جيلا بعد جيل ،فحتى في موته أبى الا ان يترك رسالة حين شاء القدر أن يموت في يوم ذكرى صدور ظهير الحريات العامة التي سجن من أجلها في عين قادوس ،والذي غادره بسراح مؤقت ظل ملازما له طيلة حياته ، كما صادف رحيله ليلة تطهير الكركرات من خصوم وحدتنا الترابية التي كرس احرضان حياته للدفاع عنها في كل وقت وحين كبطل من أبطال حرب الرمال، وكواحد من الذين ساروا في مقدمة المسيرة الخضراء وفيا دوما وأبدأ لروح قسمها الخالد.

فوداعا أيها الزعيم .

Share this content:

إرسال التعليق

You May Have Missed