لحسن المرابطي
في خضم التصعيدات الإقليمية والصراعات السياسية التي سادت لسنوات بين المغرب والجزائر، جاء خطاب العرش الأخير للعاهل المغربي ليُحدث انعطافة رمزية ودلالية لافتة، لا على مستوى مضمونه فقط، بل في طريقته في مخاطبة الجار الشرقي. تجاوز الخطاب هذه المرة لغة البروتوكولات ورسائل النوايا السياسية إلى مستوى إنساني وشعبي مباشر، حين وجّه نداءه لا إلى الحكام، بل إلى الشعب الجزائري، كأنه أراد أن يقول: “أنتم لستم خصومي، بل أنتم أهلي”.
الخطاب لم يأتِ في لحظة ضعف سياسي أو حاجة دبلوماسية؛ بل جاء في لحظة يعتبرها المراقبون لحظة “تمكن مغربي”، داخليًا وخارجيًا. فمن جهة، حسم المغرب موقف المجتمع الدولي لصالحه بشكل متنامٍ، خاصة من قبل قوى كبرى كالولايات المتحدة وبريطانيا ودول أوروبية وازنة، والتي باتت تعترف صراحة بالسيادة المغربية على أقاليمه الجنوبية. ومن جهة أخرى، يعيش خصومه الإقليميون عزلة سياسية دولية وفشلًا ذريعًا في فرض روايتهم.
ورغم هذا التمكّن، لم يُسخّر العاهل المغربي خطابه لتصفية الحسابات أو لاستعراض عضلات النصر. بل ذهب في الاتجاه المعاكس تمامًا: مدّ اليد من موقع المنتصر، لا كتنازل، بل كتعالٍ أخلاقي وسياسي على منطق التشفي والخصومة التقليدية. هذا الأسلوب لا يُقرأ فقط بوصفه حكمة سياسية، بل كرسالة مبطنة مفادها أن المغرب دولة ذات مؤسسات قوية، قادرة على تجاوز الأحقاد وتحييد العناد حين يتعلق الأمر بوحدة الشعوب والمصير المشترك.
ما ميّز خطاب العرش كذلك هو فصل واضح بين النظام الجزائري والشعب الجزائري. في عالم تسيطر فيه النظرة النمطية، وتُختزل فيه الشعوب في مواقف سلطاتها، أصر العاهل المغربي على مخاطبة المواطنين الجزائريين مباشرة، متجاوزًا الحدود السياسية. وكأن الرسالة تقول: “أنتم لستم الطرف المعادي، أنتم الطرف المغرّر به، الضحية أحيانًا، والشقيق دومًا”.
إن هذا التفريق لا يخلو من شجاعة، لأنه يخاطب عمق الوجدان الجزائري، ويخترق جدار البروباغندا الرسمية، عبر إقرار ضمني بأن الشعوب لا يمكن أن تؤخذ بجريرة سلطاتها. كما أنه يُعيد بناء الثقة الممكنة في نسيج شعبي موحد، تتقاسمه الذاكرة والتاريخ والجغرافيا والثقافة، رغم محاولات التفتيت السياسي.
في قراءته السياسية، قد يُعتبر الخطاب تحضيرًا لما هو قادم على المستوى الإقليمي، وربما الدولي. فإذا كانت الأمم المتحدة بصدد إنهاء ملف الصحراء وفق تصورات جديدة خلال الأشهر المقبلة، فإن المغرب بدا وكأنه يُهيّئ الرأي العام، ليس فقط داخليًا، بل أيضًا في الجزائر، لواقع جديد يتطلب تعاطيًا مختلفًا.
وهنا تظهر براعة اللحظة: فالخطاب بمثابة الهدوء الذي يسبق العاصفة، لكنه ليس هدوءًا مراوغًا، بل عقلانيًا. يريد أن يقول: “نحن على مشارف تحول كبير، ولا نريد أن نترك إخواننا الجزائريين خارج هذا الأفق”. في لحظة كهذه، تُصبح اليد الممدودة ليست فقط خيارًا أخلاقيًا، بل خيارًا استراتيجيًا، لأنه يُراهن على استباق التصدعات وامتصاص التوتر قبل أن يتفاقم.
في النهاية، يبدو أن المغرب اختار أن يخاطب ما تبقّى من عقل مشترك، وأن يراهن على “ضمير الأمة المغاربية” لا على دبلوماسية الأنظمة فقط. اليد الممدودة ليست مجرد استعارة لغوية، بل مبادرة مشروطة بتخلي الجارة الشرقية عن عنادها التاريخي ومواقفها الجامدة. فالعلاقات بين الشعوب لا تُبنى على القطيعة، بل على الوصال، ولا تُدار بمنطق المناكفة، بل بالحوار.
خطاب العرش لهذا العام قد يكون، إذا تم التقاطه جيدًا، فرصة تاريخية لتجاوز المأزق المغاربي نحو أفق مشترك أكثر اتزانًا، تتجاوز فيه السياسة ضجيجها، وتعلو فيه مصالح الشعوب فوق صراعات الحدود والأيديولوجيا.
تعليقات ( 0 )