الفساد.. السرطان الصامت الذي يهدد حاضر الأمم ومستقبلها

مع الحدث :ذ لحبيب مسكر

لم يتوقف جلالة الملك محمد السادس، في مختلف خطبه وتوجيهاته، عن التأكيد على خطورة الفساد باعتباره أحد أبرز العراقيل التي تكبح التنمية وتزرع فقدان الثقة بين الدولة والمجتمع. هذا الإصرار الملكي يعكس قناعة راسخة بأن معركة محاربة الفساد ليست مجرد خيار سياسي عابر، بل هي ورش استراتيجي وجودي، يهدف إلى تخليق الحياة العامة، وترسيخ قيم الشفافية، وربط المسؤولية بالمحاسبة.

فالفساد ليس مجرد مصطلح عابر في نشرات الأخبار أو بنداً في تقارير المنظمات الدولية، بل هو داء عضال يتغلغل في مفاصل الدولة والمجتمع، مثل ورم خبيث يتكاثر في الظل وينهش جسد الأمة من الداخل. خطره شامل، لا يقتصر على قطاع دون آخر، بل يمتد ليقوض الثقة، ويشل الإصلاح، ويعرقل التنمية.
أولى ضربات الفساد تصيب الشفافية، التي تعد أساس أي حياة عامة سليمة. فعندما تُتخذ القرارات خلف الأبواب المغلقة وتُدار المعاملات في سرية وغموض، تغيب المحاسبة وينتشر الإفلات من المسؤولية. هذا الغياب هو البيئة المثالية التي تسمح للفاسدين بتوسيع نفوذهم وإحكام قبضتهم.

ومن الطبيعي أن يؤدي ذلك إلى عرقلة الإصلاحات. فكل مبادرة إصلاحية جادة تُصطدم بجدار من المصالح المتشابكة، فتُفرغ من مضمونها أو تتحول إلى مجرد شعارات بلا أثر، حفاظاً على امتيازات الفئة المستفيدة من بقاء الوضع على ما هو عليه.

اقتصادياً، الكلفة باهظة. إذ أن الفساد يطرد الاستثمارات المنتجة، ويغذي مناخاً غير سليم تُفرض فيه الرشاوى والعمولات كشرط لتسيير أبسط المشاريع. النتيجة هي ارتفاع تكلفة الإنتاج، تراجع الجودة، وضعف القدرة التنافسية، وهو ما يتحمله المواطن البسيط في نهاية المطاف.

لكن الخطر الأعمق يتجلى في الجانب الاجتماعي. فالفساد يضرب في مبدأ تكافؤ الفرص، ويفتح المجال للمحسوبية على حساب الكفاءة. حينها يشعر المواطن بأن العدالة الاجتماعية وهم، وأن الجهد والعمل لا يكفيان للوصول، فينمو الإحباط ويترسخ الإحساس بالظلم، ما يؤدي إلى شرخ خطير في النسيج المجتمعي.

الأخطر أن الفساد ينسف الثقة بين المواطن ومؤسسات دولته. الثقة في نزاهة القضاء، وعدالة القوانين، وصدق النوايا السياسية. وعندما تنهار هذه الثقة، يحل محلها الشك واليأس، وهو ما يجعل المجتمع في حالة شلل عام ويهدم أسس التعاقد الاجتماعي.

كل ذلك يترافق مع تعزيز ثقافة الإفلات من العقاب، حيث تتحول الجريمة غير المعاقَب عليها إلى سلوك مكرر، وتتراجع هيبة القانون لصالح منطق القوة والمال. ومع الوقت، تصبح المؤسسات هشة، تُدار لخدمة المصالح الخاصة بدل الصالح العام، ويترسخ نظام الزبونية والمحسوبية.

النتيجة النهائية مؤلمة: الفساد يقتل الأمل، يهدر الموارد، ويغتال طموحات الأجيال. لذلك تبقى محاربته معركة وجودية لا تقل أهمية عن معارك السيادة والوحدة الوطنية. إنها معركة لإعادة بناء الثقة، وتكريس الشفافية، وترسيخ سيادة القانون.

وفي هذا السياق، تبقى التوجيهات الملكية السامية بوصلة أساسية يجب أن تتحول من مجرد دعوات إصلاحية إلى برامج عملية ملموسة، قادرة على إحداث القطيعة مع كل أشكال الفساد. فالتفعيل الجاد لهذه الرؤية الملكية هو الضامن الحقيقي لبناء وطن يليق بطموحات أبنائه، ويؤسس لمستقبل تسوده العدالة والكرامة والمساواة.

شارك المقال
  • تم النسخ
تعليقات ( 0 )

اترك تعليقاً

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)