القطارات: الثورة العلمية التي غيرت وجه العالم “الحلقة 3”

إعداد ـ عبدالهادي سيكي 

توضيب ـ إسماعيل سيكي

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الحلقة الثالثة

البراق.. يقود المغرب إلى نادي العمالقة: تاريخ ومسار السكك الحديدية من 1911 إلى الزمن الفائق

المقدمة

يشكل نظام السكك الحديدية في المغرب شريانًا حيويًا للاقتصاد والتنقل الاجتماعي والخدماتي،لا يقتصر دوره على نقل البضائع والركاب فحسب،بل كان دائمًا انعكاسًا للتطورات السياسية والاقتصادية في البلاد،من خطوط بدائية في عهد الحماية إلى دخول عصر القطارات فائقة السرعة (TGV)،يحكي هذا التاريخ قصة التحديث والربط الترابي الطموح.

الفصل الأول: البدايات في عهد الحماية (1911 – 1956)

السياق التاريخي: مع توقيع معاهدة الحماية الفرنسية على المغرب سنة 1912، بدأت السلطات الاستعمارية في بناء بنى تحتية تخدم أهدافها العسكرية والاقتصادية. كان القطار أداة استراتيجية لترسيخ السيطرة، ونقل الجنود، واستغلال الثروات الطبيعية (الفوسفات، المعادن)، وتسهيل تسويق المنتجات الفلاحية.

أول خط حديدي: دشّن أول خط حديدي في المغرب سنة 1911، أي قبل توقيع معاهدة الحماية، وكان يربط بين الدار البيضاء والفقيه بن صالح، بطول 70 كلم. كان الهدف منه الأساسي هو نقل المنتجات الفلاحية من منطقة الشاوية.

تأسيس المكتب الوطني للسكك الحديدية (ONCF): في 5 أغسطس 1963،أي بعد الاستقلال،تم تأميم الشبكة وتأسيس المكتب الوطني للسكك الحديدية (Office National des Chemins de Fer كهيئة مسؤولة عن إدارة وتطوير شبكة السكك الحديدية في المغرب، لتصبح رمزًا للسيادة الوطنية.

الفصل الثاني: التوسع والتطوير بعد الاستقلال 1956 – 2000

بعد الاستقلال، واجه المغرب تحدي الحفاظ على هذه البنية وتطويرها لخدمة أهداف التنمية الوطنية.

تعزيز الربط بين المدن الكبرى: تم توسيع الشبكة لربط المحاور الاقتصادية الرئيسية: الدار البيضاء (القلب الاقتصادي)، والرباط (العاصمة الإدارية)، وفاس (العاصمة العلمية)، ومراكش (عاصمة السياحة).

خطة المكننة: في السبعينيات والثمانينيات،ركز المكتب على تحديث الشبكة من خلال مكننة عمليات الصيانة وإدخال قاطرات ديزل أكثر قوة، ثم التحول التدريجي إلى الكهربة.

كهربة الخطوط: شهدت فترة التسعينيات نقلة نوعية مع كهفة الخط بين الدار البيضاء والرباط سنة 1995،مما مهد الطريق لخدمات أسرع وأكثر راحة.

نقل الفوسفات: ظل الخط المخصص لنقل الفوسفات من خريبكة إلى ميناء الجرف الأصفر (بطول 120 كلم) بمثابة العمود الفقري للشبكة من حيث حجم البضائع المنقولة،وهو ما زال يشكل نسبة كبيرة من إيرادات المكتب.

الفصل الثالث: القرن الـ21 والطفرة النوعية (2000 – 2018)

دخلت السكك الحديدية المغربية مرحلة جديدة مع بداية الألفية الثالثة،تميزت بمشاريع طموحة وخدمات راقية.

القطار فائق السرعة (TGV) AL BORAQ: في 15 نوفمبر 2018، دخل المغرب تاريخ النقل الحديث بافتتاح الخط فائق السرعة (LGV) بين طنجة والدار البيضاء،وهو الأول من نوعه في إفريقيا والعالم العربي،يحمل القطار اسم “البراق” تيمنًا بالدابة التي عرج بها النبي محمد صلى الله عليه وسلم إلى السموات العلى.

السرعة: تصل سرعته إلى 320 كم/ساعة (على الخط المخصص للسرعة الفائقة بين طنجة والقنيطرة).

المسافة والزمن: قلص زمن الرحلة بين طنجة والدار البيضاء من 4 ساعات 45 دقيقة إلى ساعتين و10 دقائق فقط.

الأثر: ساهم المشروع في تعزيز الاندماج الاقتصادي بين قطبي الشمال والغرب،ودعم السياحة،وتخفيف الازدحام على الطرق السيارة.

القطار المزدوج الطابق (Navette Double): أدخل المكتب الوطني خدمة القطارات المزدوجة الطابق على الخط بين الدار البيضاء والرباط، مما وفر طاقة استيعابية أكبر ورفع من مستوى راحة الركاب في ظل الإقبال المتزايد.

الفصل الرابع: آخر مستجدات مشاريع التنقل عبر السكك الحديدية (2019 – المستقبل)

لا يزال المغرب يواصل استثماراته الضخمة في تطوير شبكة السكك الحديدية، ضمن رؤية استراتيجية تهدف إلى تعزيز الربط الترابي والتنمية المستدامة.

توسيع شبكة القطار الفائق السرعة (LGV):

الدار البيضاء – مراكش: هناك دراسات جارية لتمديد الخط فائق السرعة نحو مراكش، الوجهة السياحية الأولى، مما سيربط الشمال بالجنوب بسرعة قياسية.

الرباط – فاس: يُعتبر ربط العاصمة الإدارية (الرباط) بالعاصمة العلمية (فاس) أحد الأولويات، وقد تمت دراسة المشروع وهو في طور الانتظار للتمويل والإطلاق الرسمي.

طنجة – تطوان – العرائش: هناك مخططات لربط مدن الشمال الغربي (تطوان، العرائش) بشبكة القطار السريع.

مشروع القطار الكهربائي الحضري لكازابلانا (الدار البيضاء):

يُعد أحد أكبر المشاريع الحضرية حالياً. يهدف إلى إنشاء شبكة قطارات كهربائية خفيفة (Tram-Train) تربط أحياء الدار البيضاء الكبرى مع بعضها البعض ومع محطة القطار الرئيسية (Casa-Voyageurs).

سيساهم بشكل كبير في حل أزمة الازدحام المروري في العاصمة الاقتصادية.

مشروع “الرواق اللوجستي للدار البيضاء” (Casablanca Logistics Corridor):

مشروع متكامل يهدف إلى تحويل محطة الدار البيضاء-الميناء إلى منصة لوجستية كبرى، تربط الميناء مباشرة بشبكة السكك الحديدية الوطنية.

الهدف هو تفريغ الميناء من الشاحنات وتقليل التكاليف والأثر البيئي لنقل البضائع.

تحديث الأسطول وتطوير الخدمات:

مواصلة تجديد أسطول القطارات التقليدية بعربات أكثر راحة وحداثة.

تطوير الخدمات الرقمية للركاب (الحجز عبر الإنترنت، التذاكر الإلكترونية، تطبيقات الهاتف).

تعزيز إمكانية النقل المشترك (Intermodalité) من خلال ربط محطات القطار بمحطات الحافلات وسيارات الأجرة وخدمات الدراجات.

مشاريع الربط الجهوي:

دراسة إمكانية ربط مدن جديدة بالشبكة، مثل الناضور والعيون في الشرق والجنوب، في إطار سياسة التعمير وتقوية الروابط بين الأقاليم.

الخاتمة

تمثل رحلة تطور السكك الحديدية في المغرب قصة نجاح ملهمة، انتقلت خلالها من أداة في خدمة أهداف استعمارية إلى رافعة أساسية للتنمية الوطنية،كان قرار استثمار مليارات الدراهم في مشروع القطار الفائق السرعة محطة فارقة،أرسلت رسالة قوية حول طموح المغرب التكنولوجي والاقتصادي،وبالنظر إلى المستقبل، تظل هذه الشبكة في صلب الاستراتيجيات الوطنية للربط الترابي،والتنمية المستدامة،وتحسين جودة حياة المواطنين،مما يجعلها نموذجًا يُحتذى به في القارة الإفريقية والمنطقة العربية.

يتبع الحلقة الرابعة…

شارك المقال
  • تم النسخ
تعليقات ( 0 )

اترك تعليقاً

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)