القلم الحر: وعيٌ يُبنى أم واقع يُشوَّه؟

مع الحدث

المتابعة ✍️ : ذ لحبيب مسكر

 

في تسعينيات القرن الماضي، حين لم تكن التكنولوجيا قد غزت بعد تفاصيل الحياة اليومية، ولم يكن الإنترنت في متناول الجميع، كانت المعلومة شيئًا نادرًا، والوصول إلى الحقيقة يتطلب وقتًا وجهدًا وبحثًا مضنيًا. آنذاك، كانت الأخبار تمر عبر قنوات محدودة، وتخضع غالبًا لرقابة صارمة، مما جعل المعرفة سلعة نادرة، وأحيانًا منعدمة. أما اليوم، فقد أصبحنا في عصر فيضانٍ معلوماتي هائل، حيث تتدفّق الأخبار والبيانات على مدار الساعة، وتتداخل الحقائق بالشائعات، والصحيح بالمحرّف. ورغم هذه الوفرة، فإن الوصول إلى المعلومة الدقيقة بات أكثر تعقيدًا من ذي قبل، بسبب ما يختلط بها من مغالطات وأخبار زائفة يصعب فرزها وسط هذا الزخم.

 

وفي هذا المشهد المتداخل، يظل القلم الحر أداة أساسية في تشكيل الوعي المجتمعي، وصيانة القيم، ومواكبة مسار الإصلاح والتنمية. لكنه، في الوقت نفسه، قد يتحوّل إلى وسيلة لهدم الثقة وتزييف الواقع، إذا لم يكن بين أيدٍ أمينة.

القلم الحر… صوت الحقيقة والضمير

عندما يُمسك بالقلم من يتحلّى بروح المسؤولية والمهنية، يتحول إلى أداة تنوير حقيقية تسهم في البناء وتفتح آفاق الإصلاح. فالكلمة حين تُكتب بضمير حي تُسلّط الضوء على مكامن الخلل وتساهم في معالجة القضايا دون تهويل أو مبالغة. وهي تمنح المتلقي معرفة دقيقة تمكّنه من التفاعل الواعي مع محيطه، وتعزز ثقافة الحوار والاختلاف الرصين ضمن الإطار الجامع للقيم والمصلحة العامة. كما تنقل هموم الناس وتطلعاتهم بصوتٍ متزن، دون السقوط في الإثارة المجانية أو تجاوز حدود الاحترام. فالإعلام حين يتحرّك ضمن هذا الأفق، يكون شريكًا صادقًا في التنمية والتماسك المجتمعي، مساهماً في تعزيز الثقة بين المواطنين ومؤسساتهم، وداعمًا لمسار التغيير في ظل الاستقرار.

غير أن أخطر ما يُهدد سلامة الوعي العام هو سعي بعض الجهات الخارجية إلى التغلغل في الفضاء الإعلامي، من خلال بث أخبار زائفة ومعلومات مغلوطة تهدف إلى تشويه صورة البلاد في الخارج عبر حملات تضليل ممنهجة، وزرع الفتنة الداخلية من خلال التشكيك في المؤسسات الوطنية، وضرب الثقة بين المواطن ودولته بافتعال روايات مغرضة، تستغل مناخ الانفتاح وتعدد المنابر لترويج خطاب مشوَّش. وغالبًا ما تُستخدم مواقع التواصل الاجتماعي كمنصات لبث هذه الرسائل المسمومة، التي تتوسل الإثارة وتستهدف وحدة الصف، وتلعب على أوتار دقيقة من النسيج المجتمعي، لا لشيء سوى خدمة مصالح خارجية لا علاقة لها بحقيقة الواقع المغربي.

وإزاء هذا الواقع، تتعزّز أهمية إعلام مهني، يشتغل بثقة ومسؤولية، ويجعل من التثبت من المعلومة أولوية، ومن احترام الذوق العام والهوية المشتركة نهجًا. فالمتلقّي المغربي، رغم كثافة الخطاب الرقمي، أصبح أكثر وعيًا بآليات التلاعب، وأكثر قدرة على التمييز بين الخط التحريري الجاد وبين الأصوات النشاز التي لا تخدم إلا التشويش والتفرقة. وهنا يتجلّى دور الصحافة الصادقة في إعادة بناء الثقة، وإبراز الصورة الحقيقية للمجتمع، دون تجميل زائف ولا سوداوية مفتعلة، بل بروحٍ مهنية توازن بين النقد البناء وحس الانتماء.

القلم، في جوهره، مسؤولية. وحين يكون نزيهًا، يُسهم في ترسيخ الثقة وبناء المستقبل. أما إذا استُعمل بسوء نية، أو تحوّل إلى بوقٍ لخدمة أجندات مشبوهة، فإنه يُصبح أداة تهديد لوعي الأمة واستقرارها. وفي مواجهة هذه التحديات، يظل الرهان معقودًا على صوت الكلمة الصادقة، وعلى وعي جماعي يرفض الانجراف وراء الإثارة، ويمنح الثقة لما يُبنى على أساس من المهنية والصدق والاحترام.

شارك المقال
  • تم النسخ
تعليقات ( 0 )

اترك تعليقاً

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)