احتضن المركب التربوي الحسن الثاني بمدينة الدار البيضاء حدثا مفصليا في مسار التربية غير النظامية بالمغرب المناظرة الجهوية للتخييم التي نظمتها الجامعة الوطنية للتخييم بجهة الدارالبيضاء- سطات بشراكة مع المديرية الجهوية لقطاع الشباب. لم تكن هذه المناظرة مجرد تجمع عابر في رزنامة الأنشطة الجمعوية بل لحظة حوار عميقة كشفت عن حاجة المجتمع المدني المغربي إلى نفسٍ جديد يؤسس لرؤية متكاملة تجعل من التخييم رافعةً للتنشئة الاجتماعية ومجالا لترسيخ القيم والمواطنة والمسؤولية.
بدا المشهد منذ اللحظات الأولى منظمًا بإتقان لافت، حضور وازن جمع أكثر من خمسمائة فاعل جمعوي ومؤطر ومسؤول جهوي يمثلون الجمعيات والمنظمات الكشفية ومديري دور الشباب والمديريات الإقليمية الست عشرة المنتمية للجهة. تميز اللقاء بحسن الاستقبال ودقة توزيع الملفات وتفعيل روح المشاركة الجماعية في كل تفاصيل المناظرة من الورشات الموضوعاتية إلى الجلسات العامة التي غلب عليها الطابع التفاعلي والنقاش الهادئ الرصين.
افتتحت الجلسة الرسمية بكلمة السيد المدير الجهوي لقطاع الشباب الذي شدد على أهمية المقاربة التشاركية في رسم معالم تصور جديد لقطاع التخييم معتبرا أن إشراك كل المتدخلين من سلطات محلية ومجتمع مدني هو المدخل الأساس لإصلاح مستدام مع تقديم احصائيات عامة للمشاركة في التداريب و المخيمات. ثم جاء دور السيد محمد كلوين رئيس الجامعة الوطنية للتخييم الذي ألقى مداخلة قوية في لغتها وصادقة في مضمونها، داعيا إلى قراءة «رياضية» للواقع التخييمي أي قراءة عقلانية تعتمد الأرقام والمعطيات لتفكيك أعطاب المنظومة وإعادة تركيبها على أسس علمية.
قدم محمد كلوين في كلمته تشخيصا دقيقا للواقع التخييمي، معتبرا أن الأزمة تتجاوز النقص في التمويل إلى غياب رؤية سياسية واضحة تضع التخييم ضمن أولويات الدولة في مجال التربية غير النظامية. وأشار إلى المفارقة الكبرى التي تعيشها جهة الدار البيضاء – سطات التي كانت إلى عهد قريب تزخر بعددٍ من المراكز النشيطة كسيدي رحال وطماريس وعين السبع ولم يتبقّ منها اليوم سوى ثلاثة مراكز رئيسية هي: العالية بالمحمدية، بوزنيقة، والحوزية. وهو رقم متواضع لا يليق بجهة تحتضن أكبر كثافة سكانية وأوسع شبكة جمعوية بالمملكة. كما دعا رئيس المكتب الجامعي إلى ضرورة إدماج التخييم في صلب السياسات العمومية بوصفه أداةً لتقوية قيم المواطنة والعيش المشترك لا مجرد نشاطٍ موسميٍ صيفي. وطالب بمراجعة المرسوم المنظم للتخييم بما يضمن وضوح المسؤوليات ويقطع مع أشكال الريع الجمعوي وسوء التدبير التي ما تزال تلطخ صورة هذا القطاع الحيوي.
لم تخل مداخلات المشاركين من نبرة نقدية مسؤولة، فالكثير من الفاعلين شددوا على أن النهوض بالتخييم لا يمكن أن يتحقق دون حكامة تشاركية تعيد الثقة بين الجمعيات والدولة. كما برز إجماع على أن التخييم يجب أن يدرج ضمن الخدمات العمومية التربوية باعتباره أداةً استراتيجية لبناء شخصية الطفل المغربي وتنمية مهارات الشباب في بيئة تحترم الحقوق وتعزز قيم الانتماء.و ركز أحد المدراء الإقليميين في مداخلته على أهمية إعادة تأهيل المراكز المتوقفة عن العمل بدل الاكتفاء بالمراكز القليلة النشيطة معتبرا أن البنيات التحتية هي الركيزة الأساسية لأي مشروع إصلاحي جاد.
روح الانضباط والمسؤولية العالية في الأداء التنظيمي للمكتب الجهوي للجامعة الوطنية للتخييم بجهة الدار البيضاء – سطات كانت حاضرة و متجسدة برئاسة عبد الهادي ديهاج الذي يجمع الكل على أنه مهندس عرس هذه المناظرة الجهوية بامتياز بمعية المدير الجهوي. فقد أشرف بنفسه على بناء الخيام وتجهيز القاعات وتوزيع المهام وكان حاضرا في كل التفاصيل من التحضير إلى التنفيذ بابتسامة لا تفارقه وروح قائد يجيد فن التحفيز والعمل الجماعي. لم يكن ديهاج مجرد منسق إداري بل كان الدينامو المحرك الذي وحد الجهود وسهّل التواصل بين المشاركين، ليجعل من المناظرة تجربة نموذجية في التنظيم والمقاربة التشاركية. لقد جسدت المناظرة الجهوية بجهة الدار البيضاء – سطات وعيا جماعيا بأن التخييم لم يعد مجرد تقليد موسمي بل أصبح مشروعا وطنيا للتربية على المواطنة والإنسان. وأن المرحلة المقبلة تستوجب الانتقال من النيات إلى البناء ومن الدعم إلى التشريع و العفوية إلى التخطيط.
واختتمت المناظرة الجهوية بنداء مفتوحٍ إلى استمرار النقاش داخل الورشات المحلية والجهوية تمهيدًا للمناظرة الوطنية المرتقبة ببوزنيقة والتي ينتظر أن تعلن عن ميثاق وطني جديد للتخييم يحدد بوضوح التزامات الدولة والمجتمع المدني في حماية الطفولة والنهوض بالعمل التربوي. لقد أثبتت هذه المناظرة أن التخييم ليس ترفا ترفيهيا ولا نشاطا صيفيا عابرا بل فلسفة تربوية عميقة تعيد الاعتبار للقيم الإنسانية في زمن الماديات السريعة. إنها دعوة إلى إعادة التفكير في معنى التربية خارج أسوار المدرسة في فضاءات تنبت روح المواطنة والكرامة والمسؤولية. فحين يصبح التخييم مشروع أمة لا نشاط موسم تتحقق حينها وصية المفكر الفرنسي إدغار موران الذي قال: “إن التربية الحقيقية هي التي تعلم الإنسان أن يعيش لا أن ينجو فقط.”
إن المناظرة الجهوية للتخييم بجهة الدار البيضاء – سطات لم تكن مجرد محطة تنظيمية أو لقاء بروتوكولي يعقد ثم ينسى بل كانت لحظة فارقة أعادت صياغة الوعي الجماعي بأهمية التخييم كرافعة استراتيجية للتربية على المواطنة وترسيخ القيم وبناء الإنسان. لقد أظهرت مجريات اللقاء أن المجتمع المدني ومعه مختلف الفاعلين المؤسساتيين قادرون على إنتاج رؤية مشتركة حين تتوفر الإرادة وتتجسد الثقة وتفتح مساحات الحوار الحقيقي. ورغم تعدد الأصوات وتباين المقاربات فقد تبلور من خلال النقاش توصيف واضح لحاجة المغرب إلى سياسة وطنية جديدة للتخييم تعيد الاعتبار لهذا الفضاء التربوي باعتباره مدرسة موازية تصقل الشخصية وتنمي روح المبادرة وتعيد الأطفال والشباب إلى قيم العيش المشترك والانتماء والمسؤولية. إن الوعي الذي أفرزته هذه المناظرة يؤكد أن مستقبل التخييم لن يبنى فقط عبر زيادة الدعم أو تحسين اللوجستيك بل عبر هندسة تشريعية ورؤية إصلاحية تجعل من التخييم جزءا من السياسات العمومية لا هامشاً تابعا لها. وتأتي المناظرة الوطنية ببوزنيقة بعد هذه الدينامية الجهوية كموعد مفصلي لصياغة ميثاق وطني جامع يحدد الأدوار ويوضح المسؤوليات ويرسم الطريق نحو مشروع تربوي وطني متكامل يستثمر قوة المجتمع المدني وحيوية الشباب. إننا اليوم أمام منعطف تاريخي إما أن يتحول التخييم إلى أداة للتغيير وبناء المواطن أو يظل حبيس المواسم والعادات. لقد برهنت جهة الدار البيضاء – سطات بتنظيمها المحكم وروحها الجماعية على أن الإصلاح ممكن وأن العمل التربوي حين يدار بالشغف والالتزام يصبح نموذجاً يحتذى ولعل الرسالة الأعمق التي حملتها هذه المناظرة هي أن التخييم ليس ترفا ولا نشاطاً ترفيهيا عابرا بل فضاء حي لصناعة الإنسان وتربية على المواطنة واستثمار في المستقبل. ومن هنا تبدأ رحلة التحول من موسم إلى مشروع… ومن نشاط إلى رؤية… ومن مبادرة إلى بناء يستحقه أطفال هذا الوطن وشبابه.





Comments
0