بينَ ألمٍ وأمل…
.لميا أ. و. الدويهي.لبنان
في عالمٍ مَجبولٍ بأنواعٍ شتَّى من الآلام، يتسابقُ الناسُ مع الأوجاع في رحلةٍ لبلوغِ الشِّفاء وراحة البال، فالسَّعادة، لمَ لا؟… إذ إنَّ الصِّحَةَ بالنِّسبة إلى مُعظمِ الناس تبقى الأهم… ولعلَّ البعض منهم يشكرون الله على صحَّتِهم لأنَّهم غيرُ قادرين على دفع تكاليف العلاج من أيِّ نوعٍ كان؟…
لا فرق، فما يهُمُّني الآن هو التطرُّق إلى أنواع الآلام التي تطالُ أولَّا الرُّوح؛ التي ولأنَّها تَسكُنُ هذا الجسد، غالبًا ما تتألَّمُ فيه، فتكون عُرضة لأمراضٍ شتَّى ومختلفة ومُتنوِّعة… فهناكَ مَن يبدو صحيحًا، لا داءَ فيه ولا وجع، وتخالهُ «مَبسوطًا» و«شو عبالو؟!» و«مين قدُّو؟!»، إلَّا أنَّهُ قد يكون فقط صحيحَ الجسد ولكنَّهُ يرزحُ تحتَ وطأةِ أحمالٍ تجعلهُ يئنُّ ويتلوَّى ما وراء الابتسامة والمصافحة والمسالمة، وقد تنعكس هذه الآلام في عاداتٍ يكتسبها كمَنفس لهذه الأوجاع، وتكون زائدة عن حدِّها، تنعكسُ في ردود الفعل والتعلُّق بالتَّدخين مثلاً، وقد تكون تفاصيل أخرى كانعدام النَّوم… لستُ أدري، أنا لا أُحلِّل بقدر ما أحاول أن ألفتَ النَّظر إلى معاناة قد تطال مُقرَّبين منَّا أو أقرباء لنا ونحنُ غافلون عن آلامٍ مُزمنةٍ لا نلحظُها في نفوسِهم، والأخطر أنَّهم هم أنفسهم يكونون غافلين عنها لأنَّهم لم يعتادوا الاصغاء للانذارات التي تطلقها نفوسهم المؤلَّمة… وقد تصلُ حدًّا بأن يُصابَ أصحابُها بأمراضٍ تكونُ نتيجةً لآلامِ هذه الرُّوح… أمَّا الموقفُ الأصعب، فيكون عندما تطالُ الأمراض مَن نُحب، فنشعُرُ بالعجزِ أمامَ آلامهم، ونضعُ أنفسَنا في خانةِ المُستحيلاتِ لأجلهم ولأجلِ شفائهم… فتتنازعُنا المواقف… كُلٌّ منَّا يرغبُ لو أنَّ الموتَ يظلُّ بعيدًا عن أحبَّائه وتحديدَا عن الوالدين… كُلٌّ منَّا يحاولُ جعلَ حياتهم هنيَّةً بقدرِ الأمكان، وهنا لا أتحدَّث عن الحالات اللاإنسانيَّة التي قد يتعرَّضُ لها بعض المُسنِّين من أبنائهم تحديدًا، فخدمة المُسنّ، والدًا كان أم والدةً ، أو حتَّى غريبًا، تحتاجُ إلى الكثير من الصَّبر والمعرفة بنفوسهم، فالقلقُ والانهيار يكونان قريبَينِ منهم لأنَّهم يدنون من السرِّ الأعظم والمُحتَّم، ألا وهو الموت، ويكون الوضعُ أصعب على أولئكَ الذين فقدوا كلَّ إخوتهم وأخواتهم وأصدقائهم وبقي هو أو هي، الأخير من الجيل الآفل… عدا عن ردود الفعل التي قد يتعرَّضُ لها المُرافق لهم في هذه المرحلة والانعكاسات النفسيَّة التي قد تطالهم هم أيضًا، إلى ما هنالك من أمورٍ قد تطرأ بحسبِ كُلِّ حالة… فالمُرافق، قريبًا كانَ أم عاملًا في المجال الإنساني، لا يستطيعُ الثَّبات، إن لم يَكن مملوءًا بفيضٍ سماويٍّ من المحبة، فهي ترأف وترحم وتسترُ جمًّا كبيرًا من العيوب، والأهمّ أنَّها تُساعِدُ الإنسان على التحرُّرِ من نواقصَ فيهِ ليستطيعَ تخطِّي مخاوف أو ربَّما شعورٍ مُعيَّنٍ بالاشمئزاز قد يُشكِّلُ حاجزًا أمامَ الخدمة، ولو كان مَملوءًا من المحبَّة… هذا ولم أبلغْ بعد الحدّ الذي أَودُّ بلوغَهُ، وهو عندما يكون المريض، بغضِّ النَّظر عن عمره ومكانتِه، مُصابًا بأمراضٍ مُستعصية وقد بلَغَتِ المراحلَ الأخيرة… تتنازعُ ذويهم مَشاعرُ مُتناقضة، فإنَّهم بإصرار وأحيانًا بإيمان، يتَحدَّون السَّماوات، علَّ القدير يشملهم بمراحمه، يَستجيبُ سؤلَهم ويشفيهم… فيُدخلوا مرضاهم في تحدٍّ قد يكونون أصبحوا غير قادرين على خَوضِهِ، فيتضاعف ألمهم، بخاصَّةٍ إن كانوا والدين ولا يزالون في وعيهم، يستشعرون تفاصيل أوجاعهم، فهم من جهةٍ يُريدون تخطِّي الألم الذي يغلبهم ويُطيحُهم رويدًا رويدًا ولكنَّ بُنيتَهم لم تعُد قادرة على التحمُّل، فيودُّون الاستسلام ليرتاحوا، وفي الوقتِ عَينِهِ لا يُريدون تَركَ أبنائهم يتخبَّطون في حَسرة فُراقهم… أمَّا نحنُ البنين، فنصبحُ مُستعدِّين لتجربة كلَّ أنواعِ العلاجات لنُطيلَ أيَّامهم ولو لساعات، ولو للحظات… غافلين عن كوننا نُضاعفُ آلامهم ونحنُ عالمون أنَهم، بالرُّغم من كلّ شيء، هم راحلون… تغلِبُنا أنانيَّتنا، وحاجتنا إليهم، علمًا أنَّنا لن نكون، لا اليوم ولا غدًا ولا أبدًا مُستعدِّين لتركهم يرحلون… لربَّما في هذه اللحظات العَصيبة الحالكة والمؤلمة والتي فيها يستعدُّ الإنسان للانسلاخ عن جذوره، إن كانوا والدين، أو عن أحبَّائه، بغضِّ النَّظر عن مكانتهم، وجب تحريرُهم من قيودِ هذه الأنانيَّة، ليَرتاحوا ويَمضوا بسلام، فلا يشعرون فوقَ أوجاعهم بذنبٍ وخجل لأنَّهم سيجعلوننا نتألَّم لفراقهم، وهنا أستطرد وأقول إنَّهم قد لا يرغبون بأن يُتعبونَا بخدمتِهم أكثر، إلَّا أنَّهم لا يعرفون عُمق النِّعمة التي نكتسِبُها لمجرَّدِ أنَّنا نخدمهم برضا وبحُبّ…
في هذه اللحظات، وجبَ علينا غمرهم بالحنان والعاطفة وإشعارهم بالسَّلام والحبّ كلّ الحب، فهذا ما يحتاجونه في رحلتهم إلى الأبديَّة… ففي هذه اللحظات، وحدهُ الحبّ يُحرِّر ويُبلسمُ الجراح… في هذه اللحظات، ليس من قوَّةٍ تفوقُ الموت سوى الحبّ الأبديّ السَّرمديّ الذي يجعلُ الأحبَّة يستمرُّون حتَّى في الغياب… في هذه اللحظات يبقى الحبّ هو الصَّلاة الأنجع والأقوى والملأى سلامًا يفوقُ آلام الفراق، الذي لا يندملُ إلَّا بأملِ اللقاء، فيُصبحُ رجاءً راسِخًا، أواصِرُه المحبَّة التي فيها الكونُ كان والتي فيها تندمِلُ كلُّ الجراح وتستمرُّ الحياة حتَّى في قلبِ المَمات…
لميا أ. و. الدويهي
٢ /٦ /٢٠١٩
شارك هذا المحتوى:
إرسال التعليق