جاري التحميل الآن

ثورة…

لمياء الدويهي لبنان

غالبًا ما يعلو الصَّوتُ مُطالبًّا بالثَّورة، أيٍّ كان نوعُها أو مصدرُها أو أهدافُها: قد تكون «ثورةً» سياسيَّة، عسكريَّة، إعتراضيَّة، إستعراضيَّة… أو ثورة تُطالبُ بنَهضةٍ فكريَّةٍ، ثقافيَّة، تطرحٍ مواضيع، لمُعالجةٍ ما، لمُبادرة ما… ثورة للتَّفعيل والتَّنشيط، ثورة للتنفُّس والتحرُّر، أو مجرَّد ثورة للثَّورة، نعم للثَّورة، لا فرق… فهل غير الثَّورة يُحدثُ تغييرًا جذريًّا وفعَّالًا وبنَّاءً؟!… فالكُلُّ يُناهضُ الفكرة، وبلحظةٍ، وبشعلةٍ، يصبحُ مُؤيِّدًا، مُباركًا، مُتحمِّسًا، مُشجِّعًا، يريدُ تَحقيقَ الأهداف وعلى الفور… يُراهن ويُكابر، يصرخُ ويغضب و… يَثور…
والثَّورة؟!… أيّ كانت، تحتاجُ إلى تَدقيق، إلى تَكتيك، إلى تريُّثٍ، إلى هدوء، إلى رَويَّة، إلى رُؤية، إلى وضوح، إلى بُعدٍ مَنظور وغير مَنظور… وإلَّا تَتفلَّتُ الأمور ويُغنِّي الكلُّ على ليلاه… والحال أنَّ الكلَّ يرفضُ الانتظار، يُريدُ استعجالَ الأمور، تَغييرَ الإيقاع، فرضَ نِظامٍ ما، ولو كان غَيرَ منتظم ولا يَصلُحُ حتَّى للتَّداولِ بينَ السُّطور… ومن سؤِ حظِّ «الثَّورة»، في هذا الإطار، أنَّها تنتَهي وتندَثر من قبلِ حتَى أن تَبدأ… فـ«الثَّائرون» يطالبون ولا يَصبِرون، يحاورون ولا يفقهون، «يثورون» ولا يهدأون…
بينما الثَورةُ الحقيقيَّة، هي تلك التي تبدأُ من القلب وتستقرُّ في الفكر، لأنَّ الإنسانَ يحتاجُ نفحةً للتَّجديد، للتَّغيير ومساحةً للتَّعبير… يحتاجُ أن يَكون، أن يُثبتَ ذاتَهُ…
وكم من ثورات وَلَجت إلى النُّور في صَمتِ السُّكون وأحدثَت تغييرًا جذريًّا في عُقول، في مُجتمعٍ، في أوطان، في عوالم، بفكرةٍ، بكلمة، بموقفٍ، بوقفة…
لا تحتاجُ الثَّورةُ إلى هَيجانٍ لتكون، يكفي أن تَنبعَ من قناعةٍ، من قرار، من رغبةٍ ، من حُريَةٍ، من مُثابرَة، وربَّما من تَضحيةٍ، ليكونَ لها معنى، فتَبني ولا تُدمِّر، تُهدي إلى السُّبل الحِقَّة ولا تَسحَق، تُحرِّر ولا تُسيء، تُنير ولا تُشوِّه، تتقبَّل الأمور ولا تدين، تحوي، تُبادر، ترجو…
فلَيتنا نتعلَّمُ أن نَثورَ ثورةَ صمتٍ واحتمال، ثورةَ صبرٍ وثباتٍ ، ثورةً على قُيودٍ، على مَواقف، على عاداتٍ وليسَ قيَم… ليتنا نثورُ ثَورةَ انضباطٍ وجهدٍ وتحفيزٍ وبُنيانٍ…
ليتنا نَقمَعُ نحنُ بذاتِنا «ثَوراتنا» الخياليَّة، الغير واقعيَّة، البعيدة المنال، والتي نخالُها تنقُلُنا من واقعٍ إلى آخر أفضل، بينما جلَّ ما تفعله أنّها ترمينا في أوهام سرابيَّة قد تدمِّرُ ليس فقط حياة وعائلة بل وأوطان… فالثَّورةُ التي نحتاجُها هي تلك التي تبدأُ من الدَّاخل، تنتفضُ على كُلِّ ما هو ناقصٍ وغير مُكتمل، مُسيء، جامد، فتطالُ حياتنَا، مُحيطَنا، مُجتمعَنا، طموحاتنا وتبلغُ ربمَّا إلى أبعد من ذلك، مَن يدري؟… فلا حدود للوجود ولا للتطوَّر أو الإبداع وحتَّى الاكتمال…
نحنُ لا نحتاجُ إلى ثوراتٍ هائجة، تُحدِثُ ضجيجًا في الخارج وتموت في الدَّاخل، تبصرُ النُّور وتَنتهي في مَهدِ الدَّيجور، نحنُ نحتاجُ إلى ثوراتٍ داخليَّة، تبني بحقّ الإنسانيَّة، مَمهورة بختمِ الأزليَّة تحت عنوان «ثورة المحبَّة الحقيقيَّة»…

شارك هذا المحتوى:

إرسال التعليق

ربما فاتك