جيل لا يعرف المستحيل فقط يريد أن يعيش بكرامة

احتجاجات الشباب لم تعد حدثا عابرا في الشوارع، ولا موجة عاطفية مؤقتة، بل أصبحت مرآة تعكس واقع جيل كامل يشعر بأنه وُضع على الهامش دون أن يكون له نصيب من القرار أو من الأمل في التغيير.

هذه الاحتجاجات في عمقها ليست سوى صرخة تبحث عن معنى، عن كرامة، عن عدالة اجتماعية مفقودة، وعن دولة يشعر المواطن فيها بأنه مرئي ومسموع.

أسباب هذه الاحتجاجات كثيرة ومتداخلة. أولها الإحباط الذي يعيشه الشباب بسبب البطالة المتزايدة وانسداد الآفاق. فكم من خريج جامعي يجد نفسه حاملا شهادة لا تفتح له بابا للعمل، ولا تعطيه سوى الإحساس باللاجدوى. هذا الشعور بالظلم الاجتماعي يولد داخلهم نارًا صامتة، سرعان ما تتحول إلى غضب حين يرون المال العام يصرف في أمور ثانوية، بينما التعليم ينهار، والصحة تتدهور، والمستشفيات تفتقر لأبسط الشروط الإنسانية.

يحتج الشباب لأنهم تعبوا من التهميش، ومن الخطابات السياسية التي تتحدث عنهم لا معهم. تعبوا من رؤية الفرص توزع بالقرابة أو الولاء، في حين يطلب منهم الصبر كلما طالبوا بحقهم في الكرامة. يرى الشباب أن المشكل لم يعد فقط في الفقر، بل في غياب العدالة في توزيع الثروة والفرص، في غياب المساواة بين من يملك كل شيء ومن لا يملك سوى الأمل.

كما أن التعليم، الذي كان من المفترض أن يكون طريقا للارتقاء، صار في نظرهم مسارا معطلا لا يواكب الواقع ولا يفتح المستقبل. فالمناهج لم تعد ترتبط بالحياة العملية، والمدارس صارت تعاني من الاكتظاظ وضعف التجهيز، والتمييز بين الطبقات الاجتماعية جعل الفوارق تتسع أكثر فأكثر، ومعها يتسع الإحباط.

أما الصحة فهي جرح يومي. فحين يمرض الفقير يجد نفسه أمام مستشفيات بلا أدوية، وأطباء بلا وسائل، يجد أن الكرامة تُنتزع منه وهو يطلب علاجا لا يجده في وطنه. لهذا يصرخ الشباب، لا لأنهم لا يحبون وطنهم، بل لأنهم يحبونه أكثر مما يحتمله صمتهم.

ومن بين الأسباب العميقة أيضا، شعور الشباب بفقدان الثقة في المؤسسات وفي الوعود السياسية. فكم مرة سمعوا كلمات عن الإصلاح والعدالة والتنمية، ثم لم يروا سوى التراجع وغلاء المعيشة وتدهور الخدمات العامة. هذه الفجوة بين الكلام والواقع صنعت لديهم قناعة بأن التغيير لا يمكن أن يأتي من فوق، بل من الشارع، من الصوت الجماعي الذي لا يخاف.

ورغم أن بعضهم يتهم هذه الاحتجاجات بالعنف أو بالاندفاع، إلا أن الواقع يقول إن العنف الحقيقي هو ما يعيشه الشباب كل يوم في صمت، في طوابير الانتظار أمام فرص لا تأتي، في صراعهم من أجل البقاء في وطن يعِدهم بالكرامة ولا يمنحها لهم. لهذا خرجوا، لأنهم سئموا الصمت، لأن الصمت صار شكلا آخر من الموت.

احتجاجات الشباب هي أيضا نتيجة مباشرة للتفاوت الطبقي. حين يرى الشاب أن ثروة البلاد تذهب لمشاريع ترفيهية، بينما القرى تعاني والعائلات تغرق في الديون، وحين يسمع عن ملايير تصرف على تنظيم كأس العالم أو على مهرجانات، في حين لا يجد المستشفى القريب من بيته جهازا طبيا بسيطا، كيف يمكنه أن يبقى صامتا؟ كيف يمكنه أن يقتنع بأن المال غير موجود؟

لكن وسط كل هذا الغضب، هناك وعي جديد يتشكل. فالشباب اليوم لا يريد الفوضى، ولا يريد المال، بل يريد عدالة اجتماعية حقيقية. يريد أن يرى إصلاحا لا إعلانات، يريد أن يشارك في القرار لا أن يُستعمل في الحملات الانتخابية، يريد أن يشعر بأن مستقبله يُصنع هنا، لا في المهجر.

في نهاية الأمر، لا يمكن قراءة احتجاجات الشباب كخطر، بل كفرصة. فرصة لتجديد العقد الاجتماعي بين الدولة والمواطنين، فرصة لفهم أن التنمية ليست مؤشرات اقتصادية، بل كرامة إنسان يعيش في أمان صحي وتربوي ونفسي، وأن الوطن لا يبنى بالخوف بل بالثقة.

الشباب حين يحتج لا يريد إسقاط الوطن، بل يريد أن ينهض به. يريد حكومة تسمع بدل أن تتجاهل، وتعترف بدل أن تبرر. يريد أن يرى تغييرا حقيقيا، لا تجميلا للواقع، لأنه ببساطة يعرف أن ما يطلبه ليس مستحيلا. فالتعليم والصحة والعدالة ليست امتيازا، بل حقا أصيلا لكل مواطن.

وهكذا، يصبح احتجاج الشباب رسالة واضحة مفادها أن الصمت انتهى، وأن جيلا جديدا بدأ يكتب تاريخه بيده لا بشعارات غيره، جيل لم يعد يخاف لأنه لم يعد يملك ما يخسره، لكنه مازال يؤمن أن الوطن يمكن أن يتغير إن صدقت الإرادة.

الله، الوطن، الملك

أحب وطني

شارك المقال
  • تم النسخ
تعليقات ( 0 )

اترك تعليقاً

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)