حين تولد الطفولة في العراء

✍️ هند بومديان

 

حين تُولد الطفولة في العراء

 

في مدنٍ تزدحم بالضجيج وتفتقر إلى الإنصات، يولد بعض الأطفال دون أن يحتفل أحد بقدومهم، ويمرّ بهم الزمن دون أن يسألهم أحد: “كيف حالكم؟”. لا مقاعد دراسية تنتظرهم، لا ألعاب، لا دفء، ولا حلم. يولدون ليجدوا أنفسهم في الشارع، يتعلمون البقاء بدل الطفولة، ويكبرون قبل الأوان، كأن الزمن قد اختصر معهم مسافات الحياة.

هؤلاء ليسوا مجرد “أطفال الشوارع” كما نسميهم ببرود، بل أطفال بلا شارع حقيقي، بلا بيت، بلا مستقبل واضح. بعضهم ضاع بين زوايا الأحياء الشعبية المكتظة، وبعضهم لفظه بيت لم يعرف معنى الحنان. هم انعكاس صارخ لانهيار أسس الأسرة، لتقاعس المجتمع، ولعجز الدولة عن احتضان أبنائها في لحظة احتياجهم القصوى.

لا يكفي أن نشير إليهم عند تقاطع الطرق، أو نحوق عليهم عند إشارات المرور. لا يكفي أن نُصدم من مشهد طفل نائم على الرصيف، ملفوفًا ببطانية متسخة تحت برد قارس. هؤلاء الأطفال لا يحتاجون الشفقة العابرة، بل يحتاجون العدالة. نعم، العدالة. لأن الطفولة في الشارع ليست قدرًا، بل نتيجة واضحة لفشل في السياسات الاجتماعية، التعليمية، والاقتصادية.

نربّي أبناءنا على حفظ حقوق الطفل، في حين يفقد هؤلاء حقهم في أبسط مقومات الحياة. نُدرّس مفهوم “المواطنة”، بينما هم لا يجدون في هذا الوطن مكانًا يتّسع لهم. نُكثر من التصريحات حول التنمية والعدالة الاجتماعية، ثم نغض الطرف عن آلاف الأطفال الذين تكبر ملامحهم في العراء، وتتشكل شخصياتهم على هامش المجتمع.

المقاربة الأمنية وحدها، وإن غلّفت بالنيات الحسنة، لن تصنع حلًا دائمًا. ما يحتاجه هؤلاء الأطفال هو برامج شاملة، تبدأ من الوقاية وتنتهي بالدمج. يحتاجون إلى مدارس تُعيد إليهم الثقة في العلم، إلى مربين يزرعون فيهم الأمل، إلى مراكز حقيقية لا لإيوائهم فقط، بل لإعادة بناء ذواتهم.

أليس من المؤلم أن يُولد طفل في الشارع، ويكبر فيه، ثم يموت فيه دون أن يشعر أحد بفقدانه؟ أليس من الظلم أن يتحول الشارع إلى حضن وملجأ وساحة قتال في آن واحد؟ هؤلاء الأطفال لا يريدون سوى فرصة… فرصة واحدة فقط لنكون أكثر إنسانية.

وفي النهاية، ربما لا نحتاج إلى لجان جديدة ولا استراتيجيات معقدة، بل فقط إلى ضمير حي. ضمير يجعلنا نؤمن أن الطفولة يجب أن تُعاش في أحضان الأمان، لا في أزقة الإهمال. لأن المجتمعات التي تسمح بتشرد أطفالها، هي مجتمعات تمشي بثقل نحو الخراب، وإن زُيّنت شوارعها.

كلمات دلالية
شارك المقال
  • تم النسخ
تعليقات ( 0 )

اترك تعليقاً

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)