The corner of authors in a cold rainy day
عصفت رياح أواخر فصل الخريف لتعلن عن رحيل فصل شاحب مخيف. تتلاشى أوراق الأشجار الصفراء والبنية وهي تتدحرج أمام عيناي على الرصيف البالي الأملس، وكلما تقدمت خطواتي عبر الأزقة كي أصل إلى الشارع الكبير، كلما ازداد نحيب أصوات التيار الهوائي المخيف وهو يلامس الأسلاك الكهربائية المتدلية، والتي أثقلتها بعض الأحدية الرياضية البالية التي رماها بعض الصبية الأشقياء لتبقى معلقة بتلك الأسلاك إلى أن يشاء ربك. لم أكن أدري بأن كثافة الغمام السوداء الداكنة هذه وفي هذا الفصل بالضبط، ستأدي لا محالة إلى هطول كمية أمطار هائلة غير متوقعة.
طرقت باب بيت صديقي المتواجد بنفس الحي، وهو باب خشبي عتيق تآكلت بعض أطرافه بفعل الحارة والأمطار كذلك. كان صديقي ينتظرني في بيته طيلة الصباح كي نذهب مع بعض إلى مقهانا المعهود “مقهى ركن الأدباء”، وكلنا شغف كي نلقى الأحبة والأصدقاء ثانية. واصلنا السير بعد عناق حار. ونحن نمشي بخطى ثقيلة، التفَتُّ يُمنة ويُسرة لعلي أرى أحدا، لكن الزقاق كان خالياً من أنفاس التعساء والمارة، وكان الطريق غي الجهة الأخرى يبدو مخيفا وقد غمره الغبار من الأرض حتى عنان السماء. وفي الحقيقة، فقد كنا لحظتها نجد صعوبة في شق طريقنا نحو ذلك المقهى الشبه مهجور، في زاوية إحدى الأزقة القديمة، نظرا لقوة الرياح المندفعة نحونا بسرعة فائقة، وخاصة من خلال فوهة الزقاق الآخر الضيق والملتوي تارة بعد أخرى والمؤدي إلى تقاطع مع الشارع العام الفسيح الذي يكاد يخلو من السيارات والدراجات ومن البشر والدواب الذين اعتدنا رأيتهم بين الفينة والأخرى طيلة باقي أيام الأسبوع. لاحظت بأن صديقي كان يحاول لحظتها أن يتمسك بكتفي بكلتا يديه وبكل قواه وهو يقاوم تلك الرياح القوية الشرسة، بينما يضع يده اليسرى على وجهه تارة أخرى حتى تكاد تغمض عينيه خشية الغبار والحصى الصغيرة المتطايرة بفعل زمهرير الرياح العاتية. لم يصدق إبراهيم بأننا نقف الآن على عتبة المقهى العتيق الذي فضل صاحبه أن يغلق الباب البني الثقيل المزركش الذي تتخلله صدفات نحاسية قديمة بارزة بأشكال هندسية خماسية وأخرى دائرية. وبما أن المقهى يقع بجوار ثانوية عتيقة أيضا خلف الزقاق الضيق، فإن بعض الفضوليين من الطلاب لم يتوانى عن خدش جمالية الباب والعبث به، وذلك بحفر اسم حبيبته أو كتابة أول حروف اسمه أو اسم فريقه الرياضي المفضل، أو أبيات شعر ترثي حظه وتندب فقره المقذع وتعاسته السرمدية!
دفع إبراهيم الباب بقوة مخافة الرياح والحصى المتناثرة التي أسالت دموعه، لنسمع صوت المزلاج والمفصلات الحديدية التي تمسك الباب بإطاره، وهي تصدر صوتا حادا بفعل احتكاكها مع بعضها البعض: زيييييـــــــــــــــــط ….. ريييييــــــــــــيط، إذ لم يكترث صاحب المطعم أن يصب عليها ملعقة زيت كي يخرس صرير صوتها المزعج. اندفعنا بسرعة وكأننا نلقي بأجسامنا نحو الداخل اتقاء تلك الرياح المخيفة حقا. لم نكد نصدق بأننا الآن في مأمن سالمين وبإمكاننا أن نتجاذب الحديث مرة أخرى براحة تامة، ونحن في منأى عن المارة وعن ضوضاء المدينة وصخبها الذي لا يهدئ إلا عند غروب الشمس وعندما ينتشر الظلام ويرخي الليل سدوله وتعانق الأحلام الوردية مخيلات أصحاب الغرام والمحبين، وحين تداعب أنامل النعاس أجفان الأشقياء والتعساء من سكان القرى والمدن والفيافي، لكي يسلّموا أرواحهم لبارئها وهم يتقلبون في مراقدهم ويلتحفون الأمل في فراشهم تحت أجنحة الظلام الحالك المخيف في جوف الليالي السرمدية الباردة، وتحت زغاريد ربات الجن في زوايا الغرف والبيوت.
سحب كل منا كرسيا خشبيا ثقيلا وجلسنا وكأننا نلقي بثقل أجسامنا إلى الأرض ونحن نتنفس الصعداء مع زفير يكاد يُسمع من بعيد. وضع إبراهيم قبعته على حافة الطاولة كي يترك مكانا شاسعا يكفي للصينية التي سيأتي بها النادل في أقرب وقت لا محالة تحت أصوات الرعد المخيفة وبداية الأمطار الغزيرة التي يمكننا رؤية خيوطها من خلال النوافذ الدائرية الشكل البارزة.. التفت إبراهيم يمنة ويسرة وهو يحملق ببصره في كل زاوية من هدا المكان العجيب بكل ما فيه من أفرشة وآتات وأواني نحاسيه وحديدية، وآلات موسيقية قديمة وملابس جد بالية، بل وحتى في سقف المقهى الخشبي العجيب المكون من أعمدة غليظة بمطلية بألوان مختلفة، وكأنه يراه لأول مرة، وفي نفس الوقت لا يصدق عينيه بأن المكان يكاد يكون خاليا تماما باستثنائنا نحن الاثنين، ورجل عجوز حشر نفسه في إحدى زوايا المقهى، وهو ينفث وينثر الدخان من سيجارته بشكل بهلواني عجيب ومتقطع، ثم يتابع الدوائر التي يشكلها الدخان وهي ترتفع ببطء إلى عنان السماء لتنكسر على مشارف أخشاب السقف المصفرة. بإمكانك قراءة حاله ووضعيته الاجتماعية بمجرد الإمعان فيما رسمته على محياه تجاعيد وجهه الكلح وملامحه الشديدة الحمرة بفعل لفحات الشمس. ينتابك شعور غريب إذاً وأنت تحملق في تفاصيل تجاعيد وجهه، وكأنك تقلب نظرك في صفحات كتاب مصفر قديم قدم الزمن البعيد، فتقرأ وتغور في كنه أحزانه لتستوقفك في كل لحظة قصة من قصصه الحزينة أو محطة من محطات حياته الغابرة، وكأنك تقلب أوراق ذلك الكتاب المصفرة الشاحبة والداكنة اللون والتي أصبحت هي أيضا تميل بدورها إلى حُمرة كتلك التي تعتري وتكسو وجه هذا المخلوق التعيس، الذي أصبح يعشق صمت تلك الزاوية ونورها الخافت الضوء في هذا المقهى. إنه يمثل شريحة تعيسة هي أيضا من مجتمعه، لطالما عانت ولازالت تعاني في صمت وفي ظلمة حالكة!!!، وتعشق الركون إلى الزوايا الشبه مظلمة!!!، بل تتبّع هي أيضا خيوط ودوائر دخان تحدثه مسارات سياسة بائسة تتحرك بفعل أنامل خفية (ربما من وراء الستار مثل الدمى)، لتنكسر هي أيضاً هنالك في الأعالي على صخور الجبال الصماء، تاركة معظم أولئك التعساء يجرون أذيال الخيبة، لتكبلهم الأشجان والأحزان وتحرمهم من لذة النوم والسبات العميق والرقود الذي طالما اشتاقوا إليه !!!.
لم يمض على وقتنا الكثير حتى بدأ أصدقائنا الأوفياء بالالتحاق بالركب، وما هي إلا دقائق معدودة حتى أصبح المكان يعج بالأصوات هنا وهناك، بينما العجوز فقد ظل يبادلنا نظرات حادة تعيسة دون ابتسامة، وهو يتابع دوائر دخان سيجارته كالمعتاد. وبما أننا شغوفين بالأدب والشعر فقد كان البعض لا يهدأ له بال حتى يعطي لأحدنا كنية أو لقبا يحمل اسما لأحد أعلام الأدباء أو الشعراء القدامى، فكنا في كل لحظة نسمع صيحات الحضور مثل:
ها هو أبو العلاء المعري قد وصل !؛ أو لقد جاء المتنبي!؛ أو الهدوء من فضلكم: لا أحد يتكلم، ها هو الأعشى قد وصل !!!…..؛
ثم يصيح آخر وهو يتصدر المجلس:
ها قد اكتمل العقد بوصول أميرة الشعراء الخنساء !!!….؛ وهاهي الحسناء مي زيادة !!! ويبدأ التصفيق والصفير أحيانا، وتتعالى الأصوات بشكل غريب وعجيب تعبيرا عن الفرحة والبهجة والسرور بقدوم كل أفراد تلك النخبة التي ستثري النقاش عشية هذا الثلاثاء، بداية أكتوبر من سنة 1981م، بعد يوم مليء بالغبار والزوابع يبشر بقدوم أمطار غزيرة. ورغم هذه الأجواء المرعبة وزمهرير الرياح العاتية المخيفة، فإن ذلك لم يثني من عزيمة هذه النخبة عن الرغبة في الاجتماع والإنصات لما هو جديد وما ستجود به قريحة كل واحد من هؤلاء الأدباء والشعراء الأوفياء إلى ركنهم المعتاد: “ركن الأدباء”.
اعتاد الرجل العجوز على تلك الضوضاء الغير عادية وذلك الجو البهيج الذي تحدثه “جلسة الثلاثاء” تلك بذلك المكان، فربما كانت تزعجه، إلا أنها في آن واحد كانت تكسر صمت وهدوء زاويته المعتادة وتؤنس وحشته، أو ربما كانت تسعده لأنها تعيد بفكره الشارد إلى واقع الحياة المرير، فتربطه وتحبسه إلى هذا الركن من واقع الحياة في ذلك اليوم المختلف عن سائر وباقي الأيام وعن ذلك العالم المخيف في الشارع خلف هذا الزقاق وزجاج هذا المقهى العتيق!!!….
رغم اختلاط الأصوات وكثرة اللغط أحيانا، وخاصة في بداية الجلسة، كانت لنا القدرة على تمييز بعضها عن بعض حتى دون الالتفات إلى صاحبها أو صاحبته!!!، ولا تمر لحظة إلا وتسمع قهقهة الضحك هنا وهناك مع سماع عبارات العتاب أو المجاملة.
نعم، كانت تلكم هي حالة أدبائنا وشعرائنا وأساتذتنا ومعلمينا في السبعينات والثمانينات من هذا القرن، إذ غالبا ما كانت تلك الجلسات تمحو كل همومنا وأحزاننا، بل لا يظهر على محيانا سوى الفرح والسرور وتلك الابتسامة العريضة التي تتخلل حديثنا، وكأن كل واحد منا قد كان يترك أحزانه خلف عتبة المقهى قبل ولوجه. في غمرة تلك السعادة، سرعان ما يحضر براد الشاي المنعنع، لتتحف الخنساء الجمع بطبقها المفضل من الحلويات المغربية العريقة (“غريبة، والفقاص، وكعاب لغزال”) التي تحضّرها هي بنفسها أياما قبل “جلسة الثلاثاء” المعهودة دون كلل ولا ملل!!!.
أين نحن اليوم من تلك الجلسات التي كانت تجمعنا فيها المحبة الصادقة والأخوة وشغف القراءة والمطالعة والاطلاع على كل ما هو جديد من شعر ونثر وأدب؟!!!…
نعم بالأمس القريب فقط امتدت مخالب الرأسمالية المتوحشة الشرسة إلى زوايا هذا المقهى وغيرته مثل باقي المباني الأثرية، كمسرح المدينة العتيق وملعب الثيران ودور السينما وغيرها، بل وحتى الحدائق العمومية، ابتلعها الجشع وحب المال، مثل ما حصل لذلك المقهى المهجور، لتبنى على أنقاده مكاتب ومحلات تجارية!!!، وارتحل ذلك الرجل العجوز إلى مقهى آخر يختلف تماما عن مكانه المعهود، ولم يعد يجد فيه ذلك الصمت والهدوء الذي كان يعهده طيلة الأسبوع، عدا يوم الثلاثاء، بل أصبح المقهى العصري الجديد، الذي يقصده هذا العجوز، تعتري كل زواياه الفوضى والصخب والضوضاء، كما عُلّقت على أركان جدرانه شاشات تلفزيه ضخمة بدلاً من تلك اللوحات الزيتية القديمة المعبرة التي رسمتها ريشة فنانين من ذوي الذوق الرفيع والإبداع وكانت تكسو جدران مقهانا العتيق. كانت تلك اللوحات غالباً ما تجعلك دوما تسبح في فضاء الذاكرة والخيال بمجرد أن تنظر إليها. أصبح المقهى الجديد يغص بشباب، وحتى شيوخ بقصات شعر مقززة وسراويل شبه ممزقة تخدش الحياء، وهي متدلية وتظهر جزءا من مؤخرة البعض، دون حياء!!!، تتعالى أصواتهم ويتشاجر بعضهم مع بعض ويتبادلون الشتم والكلمات النابية وحتى اللكمات حول أتفه الأشياء!!!…، بل يكاد المكان أن يخنق أنفاسك بكثرة المدخنين وصراخ المحتجين وعويل التافهين والباعة المتجولين، وتتلقفك في كل لحظة نظرات المتطفلين، ويقلق راحتك ويرهقك كثرة المتسولين ويتلقفك ودون انقطاع الباعة والسائقين المتهورين، وأصوات الدراجات النارية المفبركة التي تقض مضجع المرضى وحتى المارة والمسافرين، ويبادرك (على حين غرة) بالأسئلة والفضول سرّاق السمع من الجنة والإنس والأباليس، وهم في لباس بني البشر، فيعتريك الشك وكأنك بين الحلم واليقظة لتبدأ في تحسس أعضاء جسمك كي تتأكد من أنك لازلت في هذه الدنيا وهذا الكون المخيف -ورغم كل ذلك- حياًّ ترزق وعلى قيد الحياة!!!. ولج العجوز هذا المقهى الجديد التافه بكل المقاييس )حسب رأيه(، رغم رونق أثاثه وبلاطه وسقفه وكراسيه الجلدية اللامعة، وطاولاته المطلية بألوان زهية؛ مكان يبدو أجوف وتغشاه التفاهة، رغم وجود القليل من الخيرين اللذين يذوبون في مثل هذه الأماكن كما يذوب الملح في الماء، وتتخلل زواياه جرائد مثقلة بالتفاهة هي أيضاً، محشوة بأخبار السوق والركاكة واللغة العامية، وأخبار الأحداث الدامية والجرائم، وقصص السرقات والعنف المقيتة المهولة، وأخبار مطاردة مهربي المخدرات والأقراص المهلوسة وإلقاء القبض عليهم، والدعايات المغرضة التي تملئ صفحات بأكملها، وكذلك قصص المغنين والمغنيات التي لا تسمن ولا تغني من جوع!!!….
أين نحن إذاً من ركن الأدباء في مقهانا العتيق والفريد من نوعه في ذلك الزمن الغابر؟!!!…، وأين نحن من أيام الصفاء والنقاء والتسابق في فعل الخير والإحسان؟!!!…، زمن كان الشارع في حد ذاته مدرسة تلقنك الأدب والاحترام وكيفية التعامل مع الناس على اختلاف مشاربهم وأطيافهم، وتعلمك احترام الرأي الآخر!!!، وأين نحن من الكلام الطيب الجميل، ومن عالم القراءة والأدب؟!!! …، أين نحن من تلك الجلسات التي كانت تعج بها زوايا المقاهي في الأحياء والحارات والأزقة والطرقات، فتستمع لأحاديث جلساتها وكأنك تستمع إلى أزيز النحل هنا وهناك؟!!!…؛ فما أحوجنا إلى تلك الثقافة، وما أحوجنا إلى تلك التجمعات حول موائد الأدب والعلوم والفلسفة والفكر. ما أحوجنا اليوم إلى عالم القراءة ونشر ثقافة الإيجابيات بدلاً من نشر الثقافات السلبية والتفاهة، وثقافة السمسرة في كل شيء، فنتجمهر ونتجمع حول قراءة كتاب أو مؤلف، ونشرع في نقده بحس وفكر أدبي محض، كما كنا نفعل في الزمن. لم نعد نشاهد ذلك وبكثرة إلا عند مشاهدة مباريات كرة القدم أو غيرها، أو عند مشاهدة بعض البرامج التافهة، وحول قصص وتفاهات أخبار الجرائد البئيسة !!!…؛ ما أحوجنا اليوم إلى السباق نحو تغذية الفكر مثلما نتسابق ونتعارك (وبشراسة) من أجل تغذية البطون!!!…، ليتنا نتحرى الصدق في القول والعمل، ونتجنب الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ونخفض من أصواتنا ونحفظ ألسنتنا من الكلام السب والشتم، لأنه وكما يقال: ” بذاءة اللِّسان تحطّ من قيمة الإنسان”، و- لَيْسَ الْمُؤْمِنُ بِطَعَّانٍ وَلاَ لَعَّانٍ وَلاَ فَاحِشٍ وَلا بَذِيءٍ ” كما ورد في الحديث النبوي الشريف….،،، ما أحوجنا إلى العودة إلى الزمن الجميل بكل مقوماته ومكوناته وبشعره وأدبه ونثره، وفنونه الخالدة وبنسائه ورجاله الأوفياء….
والله ولي التوفيق،،،
باحث في مجال التربية والتعليم والثقافة
تعليقات ( 0 )