مهرجان أم الربيع بخنيفرة: استحضار حي لتراث “أسون” – من حماية القطيع إلى احتضان الهوية ضمن المهرجان الثقافي

مع الحدث لحسن المرابطي

يمثل مهرجان أم الربيع في إقليم خنيفرة (المغرب) محطة سنوية لا تُحتفى فيها بموسم الطبيعة المتجددة فحسب، بل تُستعاد فيها ذاكرة ترحال عميقة. فمن خلال تأثيثه بـالخيام الأمازيغية التقليدية واستحضار نمط الحياة البدوية لمجتمع أيت اسگوگو الأمازيغية، ينسج المهرجان جسراً رمزياً بين زمنين: ماضي الترحال الجماعي في جبال الأطلس وخاصة منطقة فزاز (الأطلس المتوسط)، وحاضر الاستقرار الذي يعيشه سكان المنطقة اليوم. وتأتي إضافة تنظيم “أسون” (المجموعات الرحل) وهندسة المخيم الدائري لتكشف عن طبقة أنثروبولوجية غنية، تُضفي عمقاً استثنائياً على هذا الاستحضار.

♦️ الزمان والمكان: رحلة موسمية تحولت إلى احتفال ثقافي

▪️ السياق التاريخي (الماضي): مع حلول فصلَي الربيع والخريف، كانت مجموعات الرحل الأمازيغية في منطقة فزاز (وهي جزء من المجال الثقافي الأطلسي المتوسطي) تُنظّم رحلات جماعية موسومة ب”أسون”. كانت الرحلة تتم غالبا عبر البغال كوسيلة نقل أساسية، متجهة صوب “أدرار” (المرتفعات الجبلية) بحثاً عن مراعي صيفية أو “أزاغار” (السهول) لقضاء الشتاء. الهدف كان اقتصادي-معيشي بحت: تأمين الكلأ والماء للمواشي.

▪️ السياق المعاصر (الحاضر): يعتبر المهرجان الأول من نوعه بجماعة أم الربيع، المتاخم لهذه المناطق التاريخية للترحال، احتفاءً بنهر أم الربيع ومنبعه. تحولت الرحلة البدوية من ضرورة بقاء إلى ذاكرة تُستحضر في فضاء احتفالي ثقافي.

♦️ هندسة “أسون”: الدائرة.. حكمة دفاعية وتضامن اجتماعي

كان تنظيم المخيم في الماضي يعكس فلسفة حياة متكاملة:

⏺️ التراتبية المكانية الذكية: تُنصب الخيام بشكل دائري متلاصق، تحيط بـساحة مركزية شاسعة.

⏺️ الوظيفة الحيوية:

▪️ حصانة جماعية: الشكل الدائري يشكل جداراً بشرياً ومادياً يصعب اختراقه، ويوفر رؤية شاملة 360 درجة لرصد الأخطار (هجمات “الأغيار” – القبائل المتنافسة – أو الوحوش المفترسة).

▪️ حماية القلب النابض: توضع زريبات المواشي وحظائر البهائم داخل هذه الساحة المركزية المحصنة. هذا التصميم يؤكد القيمة المحورية للمواشي كمصدر للغذاء (حليب، لحم)، المواد الخام (صوف، جلد)، والنقل (البغال). حمايتها كانت حماية للبقاء.

▪️ فضاء الحياة المشتركة: الساحة لم تكن للبهائم فقط، بل كانت مكاناً لـ:

▪️ اجتماعات القبيلة واتخاذ القرارات.

▪️ المقايضة والأسواق الصغيرة.

▪️ الاحتفالات والطقوس الاجتماعية.

▪️ رمزية عميقة: هذا التنظيم كان تجسيداً مادياً لقيم التضامن الجماعي (“أسون”) والتكافل والحكمة في التكيف مع البيئة والتهديدات.

 

♦️ استحضار “أسون” في المهرجان: تحول الوظيفة.. بقاء الرمز

يُعاد إنتاج هذه الهندسة التراثية في مهرجان أم الربيع، ولكن بطبقة دلالية جديدة:

⏺️ استمرارية الشكل: تُنصب الخيام التقليدية بشكل دائري حول ساحة مركزية واسعة، مستحضرةً الذاكرة البصرية والتنظيمية لـ”أسون”.

⏺️ تحول الوظيفة:

▪️ من حماية المواشي إلى استضافة الزوار: لم تعد الخيام تحمي الأغنام من الذئاب، بل أصبحت فضاءات استقبال دافئة للزوار والسياح، توفر لهم مكاناً للمشاهدة والراحة، وكأنها تحميهم (رمزياً) من الغربة وتذوب الفوارق بينهم.

▪️ من زريبات مواشي إلى مسرح ثقافي: الساحة المركزية لم تعد تضم المواشي، بل تحولت إلى “أغورا” ثقافية، مسرح مفتوح يحتضن:

▪️ العروض الفنية (أحيدوس، إزلان، تامديازت، موسيقى أمازيغية).

▪️ الألعاب التقليدية (“تاكورت”، “شيرا”، “بايسثاي سثانوت”، إيسكور.. ألعاب القوة مثل: “حجّط”، “تاموغزيلت”).

▪️ سرد الحكايات الشعبية والأمثال.

▪️ معارض الحرف التقليدية.

▪️ أي أنها تحولت من مركز الاقتصاد الرعوي إلى قلب الإشعاع الثقافي والهوياتي.

⏺️ الرمزية الجديدة: هذا التحول يرمز إلى:

▪️ البراعة في التكيف: قدرة الثقافة الأمازيغية على الحفاظ على رموزها مع إعطائها دلالات جديدة تلائم العصر.

▪️ تحول مصادر القيمة: من حماية الثروة الحيوانية (المادية) إلى حماية وصون الثروة الثقافية والرمزية (الهوية، التراث).

▪️ الأمن الثقافي: الدائرة لم تعد تحمي من اعتداءات مادية، بل أصبحت فضاءً رمزياً يُحصّن الهوية من النسيان والاندماج، ويوفر شعوراً بالألفة والانتماء للزوار.

 

♦️ الجسر الرمزي: من الترحال بالبغال والجمال والحمير، إلى الاستقرار.. حوار الأزمنة

يستكمل المهرجان حواره بين الماضي والحاضر عبر مقارنات صارخة:

▪️ وسائل النقل: استحضار الترحال عبر البغال (بطئه، مشقته، ارتباطه بتضاريس وعرة) مقابل نقل المنقولات بالشاحنات اليوم (سرعتها، قدرتها، ربطها بشبكة طرقية). يسلط الضوء على سرعة التطور التكنولوجي وتغير مفهوم الزمن والمسافة.

▪️ نمط العيش: استحضار حياة الترحال (حرية وانفتاح لكن مع تقشف وخطر دائم) مقابل حياة الاستقرار (أمان وخدمات لكن مع تحديات التحضر والاغتراب عن الطبيعة). يدفع للتأمل في إيجابيات وسلبيات كلا النمطين وقيمة مكتسبات الحاضر مع الحنين لقيم الماضي (التضامن، الصبر، الارتباط العضوي بالأرض).

 

♦️ أخيرا دائرة نصب الخيام توحد الزمنين

مهرجان أم الربيع بخنيفرة، من خلال استحضاره التفصيلي لتنظيم “أسون” وهندسة المخيم الدائري، لا يقدم مجرد مشهد تراثي. إنه يُجسّد فلسفة حياة كاملة – قائمة على التضامن الجماعي (“أسون”)، الحكمة الدفاعية (الشكل الدائري)، ومركزية المقدرات المشتركة (المواشي سابقاً، الثقافة والهوية اليوم). تحول الوظيفة – من حماية القطيع إلى احتضان العروض ومن استراتيجية بقاء إلى احتفال ثقافي – هو دليل على حيوية التراث وقدرته على التجدّد. الشكل الدائري والساحة المركزية، كرموز مادية، تصبح جسراً يربط حكمة الأجداد في التكيف مع بيئة قاسية والتنظيم الاجتماعي الذكي، مع وعي الأبناء بأهمية الهوية وضرورة الحفاظ عليها في عالم متغير. وهكذا، يصبح المهرجان أكثر من احتفال؛ إنه إعادة بناء حية للذاكرة المكانية والاجتماعية، ودرس عميق في كيف يمكن للماضي، باستعاراته الرمزية القوية، أن يثري الحاضر ويُعزز الانتماء. الدائرة التي كانت تحمي الأغنام أصبحت اليوم تحصن الهوية، مؤكدة أن قيم التضامن والحماية الجماعية تظل الدعامة الأبدية لاستمرار المجتمعات.

شارك المقال
  • تم النسخ
تعليقات ( 0 )

اترك تعليقاً

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)