الحلقة3
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إعداد ـ ذ/عبدالهادي سيكي
توضيب ـ إسماعيل سيكي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بوتسوانا: عندما تنتفض الدولة ضد الفساد والجريمة
الماس الثروة الطبيعية…من لعنة الموارد إلى نعمة الغنى والإستقرار
الوضع السابق: دولة فقيرة عند الاستقلال
عند حصولها على الاستقلال في عام 1966، كانت بوتسوانا من أفقر دول العالم، حيث تعتمد على الزراعة البدوية ومساعدة بريطانيا،لم تكن هناك بنية تحتية تذكر،وكانت معدلات التعليم والرعاية الصحية متدنية للغاية.
المفارقة والتحدي: اكتشاف الماس
بعد الاستقلال بفترة قصيرة،اكتشفت بوتسوانا كميات هائلة من الماس،وفقًا “للعنة الموارد” التي عانت منها دول إفريقية أخرى (مثل نيجيريا وجمهورية الكونغو الديمقراطية)،حيث أدى اكتشاف النفط والمعادن إلى حروب أهلية وفساد مريع،كان التحدي هو كيف ستتجنب بوتسوانا هذه اللعنة؟
استراتيجيات وسياسات مكافحة الفساد وتعزيز النزاهة
1. القيادة النزيهة و”الثقافة السياسية”
الرئيس سيريتسي كاما (أول رئيس بعد الاستقلال): أرسى تقاليد سياسية قائمة على النزاهة والتخطيط طويل الأمد،رفض تعيين أفراد عائلته في مناصب حكومية،وعاش حياة متواضعة.
ثقافة الحوار والتوافق: نظامًا سياسيًا ديمقراطيًا مستقرًا يقوم على التعددية الحزبية والتداول السلمي للسلطة،بعيدًا عن العنف والانقلابات التي أنهكت جيرانها.
2. المؤسسات القوية والمستقلة
إنشاء ديوان التدقيق والمحاسبة1970): جهاز رقابي مستقل لمراجعة حسابات جميع الهيئات الحكومية).
إنشاء لجنة مكافحة الفساد (1994):
استقلاليتها: تتمتع باستقلال كبير في التحقيق مع أي شخص، بمن فيهم كبار المسؤولين.
الوقاية والتوعية: لا تركز فقط على الملاحقة، بل على منع الفساد من خلال برامج توعوية للجمهور والموظفين.
السرية وحماية المبلغين.
3. الإدارة الرشيدة للثروة الطبيعية (الماس)
هذا هو العامل الحاسم في نجاح بوتسوانا:
الشراكة العادلة مع ديبيرز: تفاوضت الحكومة بذكاء مع شركة دي بيرز العالمية لتأسيس شركة ديبسوانا للماس بنسبة 50% للحكومة و50% للشركة. وهذا أعطى الدولة عائدًا ضخمًا وعادلًا.
إنشاء “صناديق السيادة” (Pula Fund): بدلاً من إنفاق عائدات الماس بتبذير، قامت الحكومة بتحويل جزء كبير منها إلى صندوق ثروة سيادي وطني لاستثماره للأجيال القادمة. اسم الصندوق “بولا” يعني “المطر” في لغة سيتسوانا، رمزًا للبركة والاستدامة.
الشفافية في العائدات: التزمت الحكومة بالشفافية في الإفصاح عن عائدات الماس، مما قلل من فرص اختلاس الأموال.
4. الاستثمار في التنمية البشرية والبنية التحتية
إعادة استثمار عائدات الماس في البلاد: تم ضخ الأموال في:
التعليم المجاني حتى المرحلة الثانوية.
الرعاية الصحية الشاملة والمجانية تقريبًا، مما ساهم في مكافحة فيروس الإيدز بشكل فعال.
بناء البنية التحتية من طرق ومطارات واتصالات.
النتائج والتأثير: “المعجزة الإفريقية”
مؤشرات مكافحة الفساد:
تحتل بوتسوانا دائمًا المرتبة الأولى بين الدول الأقل فسادًا في إفريقيا، وتتفوق على العديد من الدول الأوروبية حسب مؤشر الشفافية الدولية.
مؤشرات النمو الاقتصادي:
تحولت من واحدة من أفقر الدول إلى دولة ذات دخل فوق المتوسط.
نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي ارتفع من حوالي 70 دولارًا عند الاستقلال إلى أكثر من 7,000 دولار أمريكي اليوم.
تحقيق أحد أسرع معدلات النمو الاقتصادي في العالم لعقود.
الاستقرار السياسي والاجتماعي:
لم تشهد أي انقلاب عسكري منذ استقلالها،وهو أمر نادر في المنطقة.
انتخابات حرة ونزيهة وتداول سلمي للسلطة.
مجتمع متماسك ومستقر.
الدروس المستفادة من تجربة بوتسوانا
“الثروة الطبيعية نعمة وليست لعنة”: أثبتت بوتسوانا أن “لعنة الموارد”هي نتيجة لسوء الإدارة والفساد،وليست قدرًا محتومًا،المفتاح هو الإدارة الرشيدة والشفافية.
أهمية القيادة الأخلاقية من البداية: وضع الأسس الصحيحة منذ الاستقلال من قبل قادة نزهاء كان عاملاً حاسمًا.
بناء المؤسسات قبل تدفق الثروة: قامت بوتسوانا ببناء أطر مؤسسية قوية (كالديوان ولجنة مكافحة الفساد) لإدارة الثروة المتوقعة، وليس بعد فوات الأوان.
الاستثمار في المستقبل: بوعي الأجيال القادمة من خلال صناديق الثروة السيادية.
الاستقرار السياسي شرط أساسي للازدهار الاقتصادي: جذب الاستقرار الاستثمارات الأجنبية المباشرة حتى خارج قطاع التعدين.
خلاصة:
بوتسوانا هي التجربة السحرية التي أبطلت مفعول”لعنة الموارد”في إفريقيا،لقد أثبتت أن الثقافة السياسية النزيهة، والمؤسسات القوية،والإدارة الحكيمة للثروة يمكن أن تحول دولة فقيرة إلى قصة نجاح تنموية،حتى في قبة تعاني من عدم الاستقرار، بينما تواجه بوتسوانا اليوم تحديات جديدة مثل عدم المساواة في الدخل والاعتماد الشديد على الماس، إلا أن الأساس المتين من النزاهة والحكم الرشيد يمنحها أفضل فرصة لمواجهة هذه التحديات.
بمقارنة سنغافورة وبوتسوانا،نجد قاسمًا مشتركًا رئيسيًا: الإرادة السياسية الحقيقية لبناء مؤسسات قوية ونزيهة منذ البداية،هذا هو العامل الذي يميز الناجحين عن غيرهم في معركة مكافحة الفساد والجريمة وتحقيق التنمية.
تعليقات ( 0 )