نموذج سنغافورة: من مستنقع الفساد إلى دولة الرفاهية والنزاهة

الحلقة2

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

إعداد ـ ذ/عبدالهادي سيكي 

توضيب ـ إسماعيل سيكي

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

سنغافورة: عندما تنتفض الدولة ضد الفساد والجريمة

الماس الثروة الطبيعية…من لعنة الموارد إلى نعمة الغنى والإستقرار

تعتبر سنغافورة النموذج الأكثر إشراقًا ووضوحًا في العالم للنجاح في خفض معدلات الجريمة والفساد وتحقيق ازدهار اقتصادي مذهل،فيما يلي تحليل مفصل لهذه التجربة:

نموذج سنغافورة: من مستنقع الفساد إلى دولة الرفاهية والنزاهة

الوضع السابق: “مستنقع الجريمة والفساد” في الخمسينيات

بعد الاستقلال، كانت سنغافورة دولة صغيرة فقيرة، تفتقر إلى الموارد الطبيعية، وتعاني من:

تفشي الفساد الإداري والمالي: كان الرشوة أمرًا شائعًا للحصول على أبسط الخدمات الحكومية.

انتشار الجريمة المنظمة والعصابات: كانت الشوارع غير آمنة، وتسيطر العصابات على أحياء كاملة.

بطالة مرتفعة وأوضاع معيشية صعيمة في أحياء عشوائية.

انعدام الثقة بين المواطن والدولة.

الرؤية والإرادة السياسية: “لي كوان يو”

قاد رئيس الوزراء الراحل لي كوان يو حملة شاملة للتغيير، مؤمنًا بأن النزاهة هي أساس البناء، وأنه “لا يمكنك تطوير اقتصاد في مناخ من الفساد”.

الاستراتيجيات والسياسات الرئيسية التي اتبعتها سنغافورة

1. مكافحة الفساد: صفر تسامح

تم إنشاء مكتب التحقيقات في الممارسات الفاسدة في عام 1952،وتم منحه صلاحيات استثنائية، منها:

الاستقلالية الكاملة: المكتب تابع لمكتب رئيس الوزراء مباشرة،مما يجعله في مأمن من الضغوط السياسية.

صلاحيات واسعة: يمكن لموظفي اعتقال أي مشتبه به دون الحاجة لموافقة مسبقة، وتفتيش حساباته المصرفية وممتلكاته.

محاسبة الكبار قبل الصغار: كانت الاستراتيجية واضحة: “اصطاد السمكات الكبيرة”. لم يكن هناك شخص “مقدس”، حيث تم محاكمة وزراء ومسؤولين كبار.

تبسيط الإجراءات وخفض صلاحيات الموظفين: قللت الحكومة من الحاجة إلى التراخيص والمعاملات الورقية، مما قلل فرص طلب الرشاوى.

رواتب تنافسية للموظفين العموميين: دفعت الدولة رواتب عالية جدًا للوزراء والموظفين الكبار (قد تصل لملايين الدولارات سنويًا) كحافز للنزاهة وتعويض عن إغراءات الرشوة.

2. خفض معدل الجريمة: سيادة القانون والعدالة الفعالة

قوانين صارمة وواضحة: تطبق على الجميع دون استثناء، حتى المخالفات البسيطة (مثل البصق في الأماكن العامة أو تخريب الممتلكات) تترتب عليها عقوبات قاسية (الغرامات الضخمة، الجلد، السجن).

تطبيق القانون بشكل عادل ومستمر: وجود شرطة فعالة ونزيهة منتشرة في كل مكان.

العقاب الرادع: مثل عقوبة الإعدام الإلزامية في قضايا الاتجار بالمخدرات وحمل الأسلحة النارية.

الاستثمار في التكنولوجيا: إنشاء شبكة كاميرات مراقبة واسعة النطاق في الأماكن العامة لردع المجرمين.

3. البناء الاجتماعي والاقتصادي: خلق مجتمع مزدهر

أدركت القيادة أن مكافحة الجريمة والفساد لا تكفي بدون بناء بديل إيجابي:

الاستثمار في التعليم: نظام تعليمي مجاني وإلزامي عالي الجودة،يركز على قيم النزاهة والمواطنة.

الإسكان العام: قامت الحكومة ببناء مشاريع إسكان عامة (مجلس الإسكان والتنمية نظيفة وآمنة، وساهمت في تفكيك العصابات وإعادة تكوين النسيج الاجتماعي.

النمو الاقتصادي القائم على الجذب الاستثماري: بسبب انخفاض الفساد وارتفاع الأمان، أصبحت سنغافورة جنة للمستثمرين الأجانب، الشركات العالمية تتجه إلى سنغافورة لأنها تضمن:

شفافية المعاملات.

حماية قانونية للملكية الفكرية والعقود.

بنية تحتية متميزة.

التركيز على الجدارة: حيث يتم تعيين الأفراد في المناصب بناء على كفاءتهم وليس على محسوبيات أو وساطات.

النتائج والتأثير: “المعجزة السنغافورية”

مؤشرات مكافحة الفساد:

تحتل سنغافورة باستمرار المرتبة الرابعة أو الخامسة بين الدول الأقل فسادًا في العالم حسب مؤشر الشفافية الدولية. (كانت تحتل مراكز متأخرة جدًا في الماضي).

مؤشرات الأمن والجريمة:

تعتبر سنغافورة واحدة من أكثر مدن العالم أمانًا على الإطلاق. معدلات جرائم العنف منخفضة جدًا.

يمكن للمشاة السير في الشوارع في أي وقت ليلاً دون خوف.

مؤشرات الازدهار الاقتصادي:

نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي: من أعلى النسب في العالم (أكثر من 60,000 دولار أمريكي).

مركز مالي عالمي: أصبحت أحد أهم مراكز التمويل والتجارة في العالم.

مستوى معيشي مرتفع: يتمتع المواطنون بمستوى معيشة يضاهي الدول الغربية المتقدمة.

الدروس المستفادة من نموذج سنغافورة

الإرادة السياسية الحقيقية هي حجر الزاوية: بدون قيادة نزيهة وعازمة على التغيير، تفشل أي استراتيجية.

المساءلة تبدأ من القمة: عندما يرى الشعب محاكمة المسؤولين الكبار،يثق بالنظام ويقتنع بعدالة القوانين.

الشمولية في العلاج: لم تركز سنغافورة على الجانب الأمني فقط، بل جمعت بين القانون الصارم، والمؤسسات الفعالة،والرواتب العادلة،والبناء الاجتماعي والاقتصادي.

الثقافة قابلة للتغيير: غيرت سنغافورة ثقافة مجتمع كانت تتقبل الفساد إلى ثقافة مجتمع يفخر بالنزاهة.

الاستثمار في الوقاية: من خلال التعليم وخلق الفرص الاقتصادية،تقلصت الدوافع الأساسية للجريمة والفساد.

خلاصة:

سنغافورة هي الدليل الحي على أن الفساد والجريمة ليسا قدرًا محتومًا لأي شعب إنهما ناتجان عن خيارات سياسية ومؤسساتية،بالقيادة الحكيمة،والإستراتيجية الشاملة،وتطبيق القانون بشكل عادل ورادع،يمكن تحويل دولة من براثن الفوضى إلى نموذج عالمي للازدهار والأمان.

شارك المقال
  • تم النسخ
تعليقات ( 0 )

اترك تعليقاً

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)