وإن أَحبَبنا ذواتنا كما فعلَ هو؟!…
لميا أ. و. الدويهي.لبنان
وإن أَحبَبنا ذواتنا كما فعلَ هو؟!…
هل يمكن للإنسان أن يكتشفَ الأمورَ من حَولِهِ تباعًا من دونِ أن يكونَ مَعنيًّا بها بطريقةٍ مُباشرة أو غير مُباشرة؟… هل يُمكنُ أن يُكوِّنَ حُكمًا قريبًا إلى الواقع والمنطق إن لم تَمسَّهُ تلكَ الأمور في الصَّميم وتُحرِّكْهُ ليتفاعلَ معها بطريقةٍ ما؟… هل يُمكِنُهُ أن يُصبِحَ مَرجَعًا في أُمورٍ شتَّى، من دونِ أيِّ خبرةٍ في الموضوع أو وعيٍ مُعيَّن؟…
أستطيعُ أن أملأَ صفحات وصفحاتٍ من الأسئلة حول الإنسان ولا أنتهي، ولكنَني لن أَصلَ إلى أيِّ مكانٍ، فالعمرُ أقصرُ من أن نختبرَ فيهِ كُلَّ الأشياء… حتَّى ولو اغتَنينا من خُبرات الآخرين، وهو أمرٌ مُهمّ وفعَّال، نبقى في قلبِ العالمِ مَحدودين وقد تفوتُنا أمورٌ قليلٌ القولُ فيها: «لا تُعَدّ ولا تُحصى»، هذا إن لم تَفُتْنا «حياةٌ» بأكملِها…
أعتقدُ بأنَّ الإنسانَ، بطريقةٍ ما، هو قادرٌ على فعلِ كُلّ ما ذَكَرتُ وأكثر، فإنَّ قُدراتنا العقليَّة والذِّهنيّة تفوقُ إدراكَنا ووعيَنا، ولكن تختلفُ وتتفاوتُ هذه القُدُرات من إنسانٍ لآخر… البعضُ قد ينجح، إلى حدٍّ ما… والبعضُ الآخر قد لا يفهم حتَّى ما قد يُدركُهُ، إلى ما هنالكَ من تحاليل وتفسيراتٍ، لستُ بوارِدِ الولوجِ إليها وفيها، فلا أحد يقدرُ على ذلك ما عدا الخالق، المانح الكلَّ في الكلِّ وللكلّ، كُلٌّ بحسبِ طاقاتِه وقدراتِه وحتَّى احتياجاتِهِ…
غالبًا ما نحاولُ أن نكونَ الحَكمَ والمُوَجِّه وحتَّى الواعظ في أمور الآخرين، مُعتقدينَ بأنَّنا مُمسكونَ بزمامِ الأمور في ما يتعلَّقُ بحياتِنا، وعند أوَّلِ هزَّةٍ تُصيبُنا نفقدُ تلكَ القدرة على استيعابِ الأمور وتَنصيبِها في مكانها ونفقدُ بالتالي تلكَ الهيبة الوقورة التي كنَّا نتمتَّعُ بها والتي كنَّا نُطلِقُ من أبراجها توجيهاتِنا للآخرين، لنكتشِفَ بأنَّنا أضعفُ من أن نتصدَّى للعواصف التي تواجِهُنا شخصيًّا، مهما بلغَ حجمُها، والسَّبب؟ّ!… واحدٌ ووحيد، لكنَّنا غالبًا ما نغفلُ عنهُ ولا ننتبهُ إليه وهو؟!… جوهرُ الحياة، حياتنا نحن، الخاصَّة بنا، أساسُها وصلبُها…
نحاولُ أن نهتمَّ بتفاصيلِ الآخرين ليغدوَ لوجودِنا قيمة، لأنَّنا نخشى الوقوفَ أمامَ مِرآةِ أنفُسِنا لأنَّنا ببساطة، لا نَعرفُ كيفَ نقومُ بذلك… نحنُ نَغفلُ عن أنفُسِنا لأنَّنا نخشى أن نكتشفَ ضُعفَنا وصورةً فينا لا تُرضينا، وبدل من أن تكونَ أُمورُنا مِحورَ حياتِنا، يتحوَّلُ محورُ وجودِنا إلى نقطةٍ خارجةٍ عنَّا: إلى الآخرين، لأنَّهُ دومًا يكونُ أسهلُ علينا أن نحكُمَ في «أشياءِ» الآخرين من«أشيائِنا» ، لأنَّها «عَويصة» إن لم تكن مُؤلمة وتَتخطّى قُدراتنا…
نحاولُ أن نُحبَّ الآخرين بكُلِّ ما نملكُ من طاقات ونحاولُ أن نُقدِّمَ لهم الكثير، ولو استطعنا، لَقدَّمنا ذواتِنا «ذبائحَ حُبٍّ»، فحياتُنا «تنهارُ بعيدًا عمَّن اخترنا أن نُحبّ»… من الطَّبيعي، في طورِ نُموِّنا وبلوغِنا النَّفسيّ والفكريّ، أن نمرَّ بمراحلَ من حياتِنا بمشاعرَ وبانفعالات مُشابِهة أو ببعضٍ منها؛ ولكن ألَّا نعرفَ كيف نتخطَّاها، فهذا يَضعُنا في خانةِ الغافلينَ عن أصغرِ الأمور، أبسطُها وأهمُّها، وهو هذا الجوهرُ الذي يتجلَّى بالقدرةِ على أن «نُحبَّ ذواتِنا» وأن نعتنيَ بها لتغدوَ قابلةً للقيامِ بكُلِّ ما ذكرتُ آنِفًا، أقلُّهُ البعض منه، إن استَطَعنا، وإنَّما بطريقةٍ صَحيحة…
كيف يستطيعُ أيٌّ منَّا أن يُحبَّ الآخر أو الآخرين وأن يستمرَّ في هذا الحبّ وهو غافلٌ عن نفسِهِ، عن عُمقِ كيانِهِ؟ كيف يستطيعُ أن يمنحَ ضوءًا وهو في عَتمةٍ تُسبِّبُها مُعاناتُه؟… عندما خلق الله كلَّ واحدٍ منَّا، ميَّزه بالعديدِ من العطايا، أحبَّه حتَّى المُنتهى… وإن كنَّا نحنُ نُحبُّ الله، فكيف لا نُحبُّ عَطيَّتهُ التي هي «حياتُنا»؟… عندما نبدأُ بإعطاءِ ذواتِنا تلكَ القيمة الإنسانيَّة التي أخذناها مجَّانًا، قد نستطيعُ أن نُحبَّ الآخرين بطريقةٍ أفضل، فالحُبُّ يحتاجُ إلى مَنبعٍ وأساس، وما أعنيه، هو قبولُ ذواتنا كما هي، وفَهمُها واحترام هذه الذات… بل وأكثر، وجبَ أن نفرحَ بها لأنَّها مُقدَّسة، عطيَّة ثمينة من قِبلِ الخالق وقيمتُها لا محدودة لأنَّها وَليدةُ المحبَّة، والمحبَّة لا تعرفُ تلكَ «الأنا» المُتعاظمة المُنغلقة على ذاتِها والتي تُريدُ وتَسعى لكُلِّ شيء حتَّى ولو لم تكُن تَحتاجُهُ، لأنَّ العالمَ يجبُ أن يدورَ من حولها ولها وأمَّا الأشخاص، فهي تُحبُّهم كما الأشياء: «للتملُّك»… فشتَّان ما بينَ أن نُحبَّ ذواتِنا بمعنى قبولِها والانطلاقِ منها نحو الآخرين بمصداقيَّةٍ ومحبَّة حقيقيَّة، وما بينَ الأنا التي تُريدُ أن تكونَ المحور لأنَّها تخشى أن تفقدَ البريقَ الوهميَّ الذي يُحيطُ بها والذي في النِّهاية، وعاجلًا أم آجلًا سينهار ولن يبقى منهُ أيُّ شيء سوى ظلال الأنا السوداء…
ليتنا منذُ الآن، نحاولُ أن نضعَ جانبًا، كلَّ الآلام، كلَّ الانتقادات، كلَّ التعليقات التي تُهمِّش، تُسيء وغالبًا ما تُدمِّرُ كَينونتنا وتُدخلُنا في دوَّامةِ «فقدان الثِّقة بالذات» والقيمة لأنفسنا، ولنُطيِّب خاطرَ ذلكَ الولد المُختبئ فينا والخائف وربَّما المُحطَّم، بنعمةِ مَن وَهَبَنا الحياة، لأنَّ وجودَهُ فينا هو الأسمى… فلنبدأ بقبول الأشياء كما هي، لنقبلَ ذواتِنا ونرتقيَ بها إلى أسمى ما فيها، فتتوهَّجُ نفوسُنا حينها بالمحبَّة والحبّ اللذينِ نتوقُ إلى مشاركتهما مع الآخرين بمجَّانيَّة، بعفويَّة، بحُريَّة، بقيمة، باحترام، ببساطة… فيَنعكِسُ هذا التوهُّجِ في كُلِّ ما نقومُ بهِ… فمن يُحبُّ ذاتَهُ الصَّغيرة، يستطيعُ أن يتخطَّى مَراحلَ الألم بطريقةٍ سَليمة، لأنَّه مُتصالحٌ مع نفسِهِ، ولأنَّ الحياةَ فيها قيمةٌ تدفعُ كُلًّا منَّا إلى الأمام، نحو الأفضل، نحو الاكتمال بالعطايا التي لا تنتهي والتي أفاضها ويُفيضُها خالقنا فينا كلَّ يوم والتي بها يَردُمُ ثَغرات نفوسِنا المؤلَّمة ويَشفيها بحُضورِهِ لأنَّهُ منذُ البدءِ أوجدَنا للـ«حياة» التي تَحوي كُلَّ معاني الفرح والمحبَّة الحِقَّة…
لميا أ. و. الدويهي
١٤ /٩ /٢٠١٩
شارك هذا المحتوى:
إرسال التعليق