بقلم: لحسن المرابطي
تشهد الصحافة الوطنية المكتوبة مرحلة دقيقة من تاريخها، حيث تتكالب عليها عوامل متعددة تهدد وجودها ومصداقيتها، في مقدمتها التحول الرقمي الجارف، وضعف الدعم الحكومي، وظهور صحافة إلكترونية تسير في الغالب وفق منطق السوق أو الولاءات السياسية.
هذه التحولات لا تطرح فقط أسئلة وجودية حول مستقبل الصحافة الورقية، بل تفتح النقاش كذلك حول استقلالية الخط التحريري، ومصداقية المعلومة، وهامش الحريات في البلاد.
زمن الرقمنة: الورقية تتراجع والرقمية تتسيد
بات واضحًا أن الصحافة الورقية فقدت الكثير من بريقها، ليس فقط بسبب تراجع المبيعات وتقلص جمهور القراء، بل لأن الصحافة الإلكترونية فرضت نفسها كبديل سريع، مجاني، ومتجدد.
غير أن هذا الانتقال لم يكن دائمًا في صالح الجودة ولا المهنية؛ فالعديد من المواقع الإلكترونية تفتقر إلى قواعد التحرير الرصين، وتعتمد على الإثارة والسبق ولو على حساب الدقة.
في المقابل، تبقى الصحافة الورقية –رغم عثراتها– أكثر التزامًا بالتحقق والتحرير، لكنها تدفع الثمن مضاعفًا: عزوف القارئ، ونقص الإشهار، وكلفة الإنتاج. المفارقة أن الرقمنة، التي كان يُفترض أن تكون أداة تطوير، تحولت إلى عامل إضعاف، لغياب استراتيجيات المواكبة والدعم الموجه نحو التحول التكنولوجي.
مؤسسة التحرير بين الاستقلال والارتهان
أحد أخطر التحولات التي يعرفها المجال الإعلامي اليوم، هو تحول مؤسسة التحرير إلى أداة بيد الجهة الداعمة، سواء كانت سياسية أو اقتصادية. ففي غياب تمويل مستقل، تلجأ العديد من المنابر إلى الدعم المشروط، الذي يتحول شيئًا فشيئًا إلى شكل من أشكال الوصاية على الخط التحريري.
وهنا ينشأ نوع من الولاء المفروض، الذي يضعف مصداقية الخبر، ويخلق منابر على المقاس، تدور في فلك الجهات التي تمولها.
الصحافة التي ترتهن لجهة ما، تفقد دورها كسلطة رابعة، وتتحول إلى أداة لتصريف المواقف وتزييف الوقائع، وهو ما يُفرغ العمل الصحفي من جوهره ويجعل المواطن يفقد الثقة في وسائل الإعلام، سواء كانت ورقية أو إلكترونية.
الصحافة المستقلة: غائبة عن الدعم، حاضرة في التضييق
في المقابل، تواجه الصحافة الحرة والمستقلة تهميشًا واضحًا في آليات الدعم.
فهي لا تتلقى الدعم العمومي لأنها ترفض الاصطفاف، ولا تستفيد من الإشهار لأنها لا تساير منطق المصالح.
هذه الصحافة، التي يفترض أن تشكل صوت المواطن، تُقصى وتُحاصر، بل تتعرض أحيانًا لحملات تشهير، ومتابعات قضائية، وضغوطات إدارية واقتصادية.
إن هذا الوضع لا يهدد فقط مستقبل المقاولات الصحفية، بل يضرب في العمق مبدأ التعددية الإعلامية، ويضيق هامش الحريات، ويخلق مناخًا إعلاميًا أحادي الصوت، في زمن يفترض أن تكون فيه حرية التعبير أحد أعمدة الدولة الديمقراطية.
خلاصات واستشراف
الصحافة الوطنية اليوم في مفترق طرق حقيقي. لا يكفي أن نرفع شعارات الإصلاح والدعم، بل يجب طرح أسئلة جوهرية: من ندعم؟ ولماذا؟ وعلى أي أسس؟ هل نريد صحافة تابعة أم إعلامًا حرًا؟ وهل الدولة مستعدة لتمويل الاستقلالية بدل الولاء؟
إنقاذ الصحافة الوطنية، سواء الورقية أو الإلكترونية، لن يتم إلا من خلال سياسة دعم عادلة وشفافة، وإصلاح تشريعي يحمي حرية الصحافة ويعاقب التجاوزات دون تكميم الأفواه، وتشجيع الاستثمار في الجودة، والتكوين، والتحول الرقمي الحقيقي.
لأن الإعلام ليس ترفًا ولا سلعة، بل هو ركيزة للحوار الوطني، ومؤشر دقيق على صحة الديمقراطية.
تعليقات ( 0 )