الكتابة في زمن العزوف عن القراءة

مع الحدث : ذ لحبيب مسكر

في عصرٍ يُسأل فيه الكاتب باستمرار: “هل هناك ملخّص؟”، تتحوّل الكتابة إلى تحدٍّ وجوديّ. لم يعد زمنُنا يصبر على التأمّل، ولا ينصتُ لصوتٍ يأتي من الأعماق. كلّ شيء يُختزل في نقاط سريعة، ويُستهلك كما تُستهلك الوجبات الجاهزة… حتى المشاعر والأفكار.

ومع ذلك، نكتب. لا لأنّ الوقت متاح، بل لأننا نكتب لنعيش. نكتب لفهم ما لا يُفهم إلا بين السطور، وللنجاة من صمتٍ قد يخنقنا إن لم نُفصح.

“اقرأ”… أول كلمة نزلت من السماء، لم تكن محضَ صدفة. كانت دعوةً إلى الوعي، لا لمجرّد تقليب الصفحات.
لكن ماذا بقي من هذا النداء اليوم، في زمن تُقاس فيه قيمة النصّ بعدد الحروف لا بعمق المعنى؟
صرنا نقرأ لنمرّ، لا لنتأمّل… نطلب المعلومة كما نطلب القهوة السريعة: نبتلعها دون أن نتذوقها.

حتى القارئ اليوم يبحث عمّا يثير مشاعره ويوقظ ما بداخله من عطشٍ وأحاسيس. والكاتب حين يخطّ نصه، لا يبحث فقط عن عرض فكرة، بل عن الوصول إلى قلب قارئ ممتلئ بالحنين أو الوجع أو الشغف.
فعندما تلمس القارئ داخليًا، تكون قد أوصلت الرسالة حقًا.

لكننا في زمنٍ آخر، زمنٍ ترسل فيه رسالة مطوّلة، أو مقالًا صحفيًا، أو منشورًا على “واتساب” أو أي تطبيق، فيأتيك الردّ بعلامة 👍… دون أن يكلف نفسه عناء القراءة، بحجة أنه “ليس لديه وقت”.
ولا يضطر للتعمّق في النص إلا إذا كان الأمر إنذارًا في العمل، أو فاتورة، أو شيئًا قد يدفع ثمنه غاليًا… حينها فقط يقرأ، بل ويبحث عمّن يشرح له ما بين السطور.

مسؤولية الصحفي والمراسل

كصحفيين ومراسلين، من واجبنا المهني أن نكتب بمهنية وحياد، مهما كانت صعوبة المتلقي وميله إلى الاكتفاء بالصورة أو الفيديو أو التصريح السريع الذي لا يُتعب عينه ولا يطلب منه تركيزًا كبيرًا.
لكننا نعرف أن هذه المواد السريعة لا تكفي لفهم عمق الحدث. فحتى الأذن التي تستمع، قد لا تكون صاغية إذا طال الحديث أو ابتعد عن الإثارة اللحظية التي يبحث عنها المتلقي اليوم.
ورغم ذلك، تبقى مهمتنا إيصال الحقيقة كاملة، حتى لو اضطررنا للسباحة عكس تيار الاستهلاك السريع.

في عالمٍ يفرّ من القراءة، تصبح الكتابة ضرورةً كالهواء.
نكتب ليس لأنّ هناك من ينتظرنا، بل لأنّ في صدورنا ما قد يقتلنا إن لم يُقال.
الكلمات المكبوتة لا تموت… بل تتحول إلى شظايا في الروح.
والجُمل المؤجلة لا تختفي… بل تصير جروحًا لا تُرى.

كما قال فرويد: “الكلمات بديل عن الجنون، والحبر دمٌ نهرقه على الورق كي لا ننزف في الواقع.”

الكتابة مرآة، كشف، مقاومة

نكتب لنرى أنفسنا بوضوح في زمن الضباب.

نكتب لنكتشف فينا ما لم نكن نعرفه.

نكتب لنقاوم تيار التفاهة وسط ضجيج “الريلز” و”التيك توك”.

نكتب لأنّ الإبداع حقّ، كما نتنفّس دون إذن.

في المغرب، كما في كثير من الأماكن، تراجعت عادة القراءة أمام سطوة الصورة وسرعة المعلومة. لكن الكاتب يظلّ كالشمعة التي تضيء رغم أنف الريح.
فالكتابة في النهاية ليست لمن يقرأون فقط…
بل هي أولًا وأخيرًا للكاتب نفسه، حتى لا يضيع في زحام العالم بلا معنى.


شارك المقال
  • تم النسخ
تعليقات ( 0 )

اترك تعليقاً

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)