مول الحكمة
في الوقت الذي كان يُفترض فيه أن يشكل مشروع “مدينة النصر” بجماعة أولاد صالح التابعة لعمالة النواصر، نموذجًا حضريًا ناجحًا لإعادة إسكان قاطني الأحياء الصفيحية بالدار البيضاء، تحوّل الحلم إلى واقع مُرّ يُعاني فيه السكان من اختلالات خطيرة على مستوى البنية التحتية والخدمات الأساسية، في ظل غياب شبه تام لتفاعل السلطات الوصية مع الشكايات المتكررة ومطالب الإصلاح. فمنذ انطلاق المشروع في سنة 2019 وترحيل آلاف الأسر إلى هذه المنطقة، اصطدم السكان بواقع مغاير تمامًا لما وُعدوا به في التصاميم الأصلية، حيث كان من المفترض أن تتوفر المدينة على طرقات معبدة، مؤسسات تعليمية، مرافق صحية، مساحات خضراء، أسواق، ومراكز ثقافية، غير أن الملاحظ اليوم هو غياب واضح لأبسط مقومات العيش الكريم، ما أدى إلى موجة من السخط الشعبي والغضب الصامت الذي يتنامى يوما بعد يوم.
ففي الوقت الذي يُفترض فيه أن تكون الطرقات مهيأة والإنارة العمومية متوفرة، تعيش العديد من أحياء المشروع في الظلام ليلاً، وتتحول إلى مستنقعات من الطين في فصل الشتاء، ومصدر للغبار في الصيف، أما النفايات فمنتشرة بشكل مقلق، دون وجود حاويات كافية أو نظام فعال لجمعها، ما يعرض السكان لمخاطر صحية وبيئية حقيقية. وإذا كانت التصاميم الأولية قد وعدت بمرافق تعليمية وصحية قريبة، فإن ما تحقق على أرض الواقع لا يرقى إلى الحد الأدنى من هذه الوعود، إذ لم يتم افتتاح المركز الصحي الوحيد بالمنطقة إلا سنة 2022، بعد مرور أكثر من ثلاث سنوات على انتقال السكان، تاركًا الآلاف منهم رهائن لمصاريف التنقل والعلاج في مناطق بعيدة. أما المؤسسات التعليمية المتوفرة، فهي غير كافية لاستيعاب الأعداد المتزايدة من التلاميذ، وتعرف اكتظاظًا شديدًا يؤثر سلبًا على جودة التمدرس، في حين تظل فضاءات اللعب والترفيه والمساحات الخضراء مجرد وعود لم تجد طريقها إلى التنفيذ.
ولا تتوقف معاناة سكان المشروع عند حدود ضعف البنية التحتية، بل تمتد إلى غياب خدمات النقل العمومي الكافية، حيث لا توجد سوى خطوط محدودة تربط المنطقة بباقي أجزاء المدينة، وهو ما يُجبر المواطنين على اللجوء إلى سيارات الأجرة الكبيرة بتكاليف يومية مرهقة، تلتهم جزءًا كبيرًا من دخل الأسر ذات الدخل المحدود. كما يشتكي عدد كبير من السكان من العراقيل الإدارية، خاصة فيما يتعلق بالحصول على شهادة السكنى أو البطاقة الوطنية، بسبب اشتراط توفرهم على رخصة السكن النهائي، والتي لم يتم تسليمها بعد لعدد من الأسر رغم إقامتهم الفعلية بالمكان منذ سنوات، ما فتح الباب أمام سماسرة ووُسطاء يستغلون الوضع لفرض مبالغ مالية مقابل تسريع المساطر. انتشار البناء العشوائي في غياب الرقابة فمن المسؤول
أمام هذا الوضع، تُطرح علامات استفهام عديدة حول دور السلطات المحلية والإقليمية، التي تلتزم صمتًا مطبقًا تجاه هذه المشاكل، دون أن تقدم توضيحات للرأي العام أو تُبادر إلى اتخاذ خطوات ملموسة لتحسين الظروف المعيشية للمواطنين. وفي غياب أي مؤشرات على تدخل سريع، تتعالى الأصوات المطالبة بفتح تحقيق شفاف في مدى احترام المشروع لتصاميمه الأصلية، وتحديد المسؤوليات عن التأخير، والوقوف على مكامن الخلل التي حولت مشروعًا تنموياً منشودًا إلى عبء يومي يُثقل كاهل الأسر المُرحّلة.
إن مشروع مدينة النصر، الذي وُصف في بدايته بأنه فرصة لإعادة الإدماج الاجتماعي والعيش الكريم، بات اليوم نموذجًا لفشل التنزيل الميداني للمخططات الحضرية، وتجسيدًا حيًا للفجوة بين ما يُعلن على الورق وما يُنفذ على أرض الواقع. وفي انتظار تدخل جدي وحاسم من الجهات المعنية، يبقى سكان “مدينة النصر” عالقين بين الإقصاء الصامت والوعود المؤجلة.
تعليقات ( 0 )