جاري التحميل الآن

دوستويفسكي – العاطفة في الرواية

 

 

وسام شكيري
أديب مسرحي و ناقد / حاصل على إجازة في الفلسفة و شهادة الماجستير في اللغة العربية .

 

لم يجد الفكر الروائي منذ موت دوستويفسكي قبل حوالي مئة عام وحتى الآن تعبيراً سيكولوجياً يعطي للعاطفة ذات المدلول العميق الذي منحها إياه دوستويفسكي، لقد حاول “فلوبير” مثلاً وهو أحد واقعييّ القرن التاسع عشر أن يعطي للعاطفة بُعداً نفسياً في روايته الكبرى “مدام بوفاري” ولكن البعد النفسي اختفى خلف المضامين الجمالية وخلف القالب العام للرواية ولم تعطنا “مدام بوفاري” في النهاية إلاّ درساً نفسياً جافاً يعبر عن بيئة معينة.‏

في حين أن موباسان، كاتب القصص القصيرة المشهورة لم يستطع في روايته الطويلة “قوي كالموت” أن يعطينا تبريراً كاملاً للارتباط الذي عاشت عليه بطلة الرواية مع الفنان الذي رسم لها لوحة، والذي حاولت أن تحافظ على حبه لها حتى بعد أن بلغت ابنتها مرحلة الشباب وشعر الرسام تجاهها ما شعره تجاه أمها قبل عشرين سنة. هنا أيضاً غاب التبرير النفسي واكتفى موباسان بالقالب الروائي كذلك لم يحاول “بلزاك” في روايته الناعقون أن يعطي مضموناً نفسياً للعاطفة التي يتحدث عنها وقد نجح بلزاك في رواية “الأب غوريو” نجاحاً جعل دوستويفسكي يترجمها إلى الروسية. وعلى كلّ فإنّ مروراً سريعاً بكتاب القرن التاسع عشر الكبار “تولستوي -جوجول -تشيخوف- جوركي” المعاصرين لدوستويفسكي وكتاب القرن العشرين الذين جاؤوا بعده مثل “همنغواي – فيتزجرالد – شتاينبك – كامو” نقول إنهم لم يستطيعوا برواياتهم أن يعطوا لنا بُعداً نفسياً للعاطفة التي استطاع دوستويفسكي أن يرسم فيها أبرز الخطوط السيكولوجية لمفهوم العاطفة في تعبيراته الروائية.. فأخرج العاطفة من القوالب الجمالية والرومانسية التي غرق فيها كتاب القرن التاسع عشر، ووضعها في إطار واقعي وحضاري، وجعل العاطفة أياً كانت تعبيراً عن مكنونات إنسانية بحتة في قالب اجتماعي يشترك فيها الألم مع اللذة والسعادة مع التعاسة والخير مع الشر..‏

لقد نجح دوستويفسكي في رسم شخصياته بشكل يتوافق مع العواطف التي تجوس في أعماقهم، وابتعد عن الأساليب الصورية والمادية والتي تظهر واضحة في الأدب المعاصر. والتي تحاول بحث العاطفة عبر المشاركة الجنسية فقط ولم يلجأ إلى المضامين الوجودية في هذه الناحية. كما فعل “كامو” بل صوّر العاطفة على أساس “بعد حيوي” والمشاركة الجنسية انطلقت لديه من خلال هذا البعد ومثلت في نفس الوقت جانباً مظلماً غير واضح في الذات الإنسانية. والتي حاول “فرويد” إلقاء الضوء عليه فيما بعد.‏
ارتبطت العاطفة عند دوستويفسكي أيضاً بمشكلة الأزلية “الألم”، في الوقت الذي ارتبطت فيه باليأس والانتصار على ما هنالك من فرق شاسع بينهما، وكانت رواياته هنا تنبع من تجربة ذاتية مع اليأس والانتصار..‏

لذلك فإنّ العاطفة في الرواية الدوستويفسكية ليست إلاّ تعبيراً شخصياً خالصاً عن تجارب ذاتية بين الفشل والنجاح وفي هذه الدراسة سنبين تجربة الكاتب من خلال حياته الشخصية أولاً ثم انعكاس ذلك الأمر ومقدار أثره في رواياته الكبرى.‏

1-العاطفة والألم في حياة دوستويفسكي:‏
تلك الشخصيات المسحوقة وذلك الألم الممزوج بالعنف وهذا المزيج الغريب من العواطف الإنسانية التي تتحد مع الرؤى والأحلام والكوابيس، التي تسيطر على أبطال الروائي الكبير ما هي إلاّ نتيجة لمفهوم عميق وغريب للطبيعة الإنسانية، ولقد أعطانا “ديستويفسكي” كأديب ما لم يستطع علماء النفس أن يعطوه في مجال دراسة العاطفة الإنسانية ولقد انبثق عطاء الكاتب من خلال ارتباط معاناته الشخصية بمعاناة أبطاله أنفسهم.‏

معاناة الشخصيات المحطمة المسحوقة في المجتمع التي تريد أن تبني شخصيتها وبالتالي عاطفتها على الرغم من الهوة التي تفصلها عن باقي المجتمع.. فالعاطفة موجودة، والاتحاد بها، والشعور بالانتماء لهذه العاطفة مفقودان، ولعل ما هو قاسٍ فعلاً أن نطمع في حب الآخرين ولا نواجه سوى بالقسوة المصحوبة بالعنف وبنوبات الأنانية. هذا هو الصراع الذي تطرحه روايات “ديستويفسكي” دائماً. الشخصيات المريضة سيكولوجياً، الفقيرة مادياً والمحطمة معنوياً والتي لا تنتمي حتى إلى نفسها، الفرد المدمر من الواجهة العاطفية لا يملك ما يقدمه سوى “الضياع والعيش دون هدف محدد” والعاطفة المسحوقة تتجه في النهاية نحو تحقيق ما هو شاذ وغير مرضٍ بالنسبة للآخرين وهذا ما يعرضه ديستويفسكي في روايته التي كتبها عقب عودته من سيبيريا “ذكريات من منزل الأموات” القصص العاطفية التي انتهى أصحابها إلى ارتكاب الجريمة والنفي إلى سيبيريا كذلك الأمر وجود “راسكولنيكوف” بطل الجريمة والعقاب في العالم السفلي مادياً ومعنوياً نحو الجريمة كتأكيد هام في أن الضياع الفكري الذي يعيشه راسكولنيكوف ليس سوى حلقة من حلقات انسلاخه الاجتماعي والعاطفي عن كل ما هو طبيعي واعتيادي في حياة الإنسان.. وأعتقد أنه ليس هناك من نهاية سيكولوجية من الممكن أن يفكر بها أديب يكتب رواية على غرار الجريمة والعقاب أفضل من النهاية التي يتجه فيها “راسكولنيكوف” حاملاً فأسه إلى بيت المرابية العجوز، كي يقتلها ولربما يوجد من الوجهة العاطفية التصاق يمكن أن يقوم بين شخصين مسحوقين اجتماعياً كالالتصاق الذي يربط بين القاتل “راسكولينكوف” والمومس “صونيا مارميلادوف” ولا يفوتنا أن نذكر هنا أيضاً رواية أخرى تمثل جانباً من علاقات اجتماعية مهوشة هي رواية “مذلون مهانون” التي تُعطي فكرة عن الهوُة التي تفصل بين من هم فوق ومن هم تحت.‏
إذن ترتبط العاطفة في روايات ديستويفسكي بصراع الإنسان في وجه ما هو قاسٍ وساحق في الطبيعة الإنسانية كما ذكرنا. وإن تبرير الآخر ينبع من دوستويفسكي ذاته الذي عانى في بداية حياته من قسوة والده عليه، تلك القسوة التي صوّر شيئاً من جوانبها في شخص “فيودور كارامازوف” الأب في‏

رواية “الأخوة كارامازوف” وفي قسوة الظروف المحيطة به خاصة بعد نفيه إلى سيبيريا وتدميره ككاتب في بداية الطريق ولعل ما رآه دوستويفسكي في سجنه في سيبيريا، ما يعكس وجهة نظره في أن الطبيعة الإنسانية ذات العاطفة الرقيقة الجياشة، ما هي إلاّ شيء هذّبه تطور الإنسان الطويل على ما يقول هنري برغسون.‏
غير أن ذلك التناقض الذي يطرحه دوستويفسكي في منطق أبطاله لا يخرج فقط عن إدراك الكاتب للقسوة التي تحملها الطبيعة الإنسانية في ثناياها ومن تجربة النفي والسجن التي عاشها بل من صراع عاطفي حاد عاشه بعد عودته من سيبيريا كسجين ومن ثم كمجند في الجيش الروسي. فبنفس الطريقة التي يصف فيها اندفاع أبطاله نحو ما يحبونه أو ما يشتهونه لأنهم يفتقدون إليه، وبنفس تلك القوة في التعبير التي نشاهدها في رواياته وكذلك بنفس الأسلوب بتعذيب النفس، اندفع دوستويفسكي في حب مجنون أعمى لزوجة معلم شاب كان قد أدمن الخمر، وقد بدأ حبه هذا بصداقة فهمهما دوستويفسكي على أنها حب تخصه به زوجة المعلم الشاب “ماريا ايساييفا” لقد بدا هذا الحب أخوياً بين الرجل القادم من سيبيريا، وبين المرأة التي لم تفعل أكثر من أنها منحت ثقتها للكاتب الذي ما يزال مجهولاً، ولقد حوّل دوستويفسكي هذه الثقة بينه وبين نفسه إلى حب كبير جارف على شكل الحب الذي تصوره لنا رواياته.. ولقد انقلب هذا الحب فيما بعد إلى مزيج من الجنون والضياع عندما لم تفكر ماريا في دوستويفسكي إلاّ كصديق حميم لها ولزوجها. إلاّ أن دوستويفسكي لم ييأس لحظة واحدة في ملاحقتها بحبه المجنون، ولقد أفسح موت الزوج المجال لدوستويفسكي للاقتراب من ماريا أكثر فأكثر، إلاّ أن “ماريا” ترسل له رسالة تنبئه فيها بأنها تعشق رجلاً آخر وأنها لا تفكر فيه مطلقاً. فما كان من دوستويفسكي إلاّ أن انسحب إلى زاوية ضيقة يستقر فيها باحثاً عن مساعدة يمدها إلى ماريا في حبّ غريمه الشاب، ويعرض عليها هنا حباً أخوياً وصداقة خالصة وهو يعلم أنه لا يستطيع الوفاء بوعده، على أن الأمور التي سارت مع دوستويفسكي في حبه الأول على هذا النحو، لا يلبث في التحسن عندما تدرك ماريا وهي المرأة المتقلبة الأهواء الضائعة. أن دوستويفسكي هو الشخص الوحيد الذي يحبها فعلاً.. ويتم الزواج بينهما ولكنه لا يكون زواجاً سعيداً على الرغم من الحب الكبير الذي يبذله دوستويفسكي لزوجته لأن الكاتب وهُن جسمه بتأثير سنوات النفي والسجن، وهو إلى ذلك مصاب بالصرع وزوجته متقلبة الأهواء يعذبها ضميرها في كل ما ترتكبه، وتشعر بضعف شخصيتها وهي مرتبكة في علاقاتها مع الآخرين وخاصة في علاقتها مع الشاب الذي يلاحق الزوجين باستمرار إلى كل مكان يذهبان إليه.. إن هذا النوع من الحب الذي يصطدم به دوستويفسكي يعبر عنه في معظم رواياته “الأبله” “الشياطين” “الإخوة كارامازوف” وخاصة في روايته “الزوج الأبدي” أما في رواية “المقامر” فإنه يصف حُبّاً من طرف واحد. تلك التجربة التي خاضها في حياته مرتين كانت الأولى مع زوجته “ماريا ايسلييفا” وكانت الثانية مع الفتاة الطالبة الجامعية “باولين سوسلوفا” المتحررة فكرياً والملحدة والمتأثرة بالأفكار الأوربية المستحدثة، والتي لم يؤمن بها دوستويفسكي في يوم من الأيام. وعندما رفضت باولين حبه لأنها اتخذت عشيقاً لها، طالباً أسبانياً يقدس الحب الحر كما كانت باولين تقدسه.‏

تدل الحياة العاطفية التي عاشها دوستويفسكي على اندفاع كبير تجاه من يحبهم وإصرار عنيف تجاه ما يشعر به نفسه، ولربما لا تكون هذه المشكلة مشكلة دوستويفسكي وحده. لم تعد مشاكل دوستويفسكي العاطفية بعد موت زوجته وفشل علاقته بباولين مثيرة للاهتمام، لأن دوستويفسكي بذل جهده بعد فشل علاقتيه السابقتين في جعل علاقاته النسائية مستقرة. فتزوج كاتبة الاختزال “آنا سنيشينكا” التي أملى عليها‏
روايته “المقامر” أعجب دوستويفسكي بآنا وطلب منها العمل في إتمام الفصول الأخيرة من روايته “الجريمة والعقاب”، ثم جلس في أحد الأيام يحدثها قائلاً: إن هناك “رساماً في مثل سنه يعيش وحيداً مبدد الأحلام مشرد العواطف يلتقي بفتاة يفهمها وتفهمه فتنتعش روحه، ثم قال لها تصوري أن هذا الرسام هو أنا وأن هذه الفتاة هي أنت وتصوري أنني صارحتك بحبي فماذا تقولين فأجابت الفتاة: أقول إنني أحبك وسأظل أحبك مدى الحياة، ويتم الزواج الذي يبدو وكأنه زواج سعيد.. وقد تحقق ذلك فعلاً.‏
تتوقف الحياة العاطفية المضطربة التي عاشها دوستويفسكي في هذه النقطة ولقد وفّرت آنا لدوستويفسكي ما استطاعت من أسباب الراحة، إلاّ أن الكاتب كان يتجه حثيثاً إلى نهاية حياته خاصة بعد موت ابنه ألكسي وصدمته بذلك.‏

2-العاطفة والألم في الفكر الروائي عند دوستويفسكي‏
ليست القصص العاطفية التي يعرضها علينا دوستويفسكي في رواياته سوى مرآة تنعكس من عليها حياته العاطفية الخاصة فكثيراً ما يذكرنا “ديمتري كارامازوف” بحبه المجنون لـ “غروشنكا” باندفاع دوستويفسكي ذاته، في حين أن الرفض الذي يشعر فيه بطل “المقامر” في الرواية التي تحمل نفس الاسم من قبل “مدموازيل بلانش” إنما يذكرنا برفض باولين له أثناء انكبابه على القمار.. وقد ظلت “بلانش” لا تطيقه خلال الأيام الخمسة عشر الأولى.‏

كانت “المقامر” انعكاساً تاماً لعلاقة باولين مع دوستويفسكي، وازدرائها له وجعل علاقتهما من طرف واحد، وقد ترك دوستويفسكي في تلك الفترة أثراً لم يعره النقاد اهتماماً على الرغم من القضايا التي يطرحها، والتي من أهمها مشكلة الإنسان المسحوق. وكان هذا الأثر رواية “في قبوي” وهي تتحدث عن معاناة رجل تخطى سن الشباب وبدأ يسخر من أحلامه وآماله والمثير في الموضوع أن هذا الشخص لا يتكلم عن عواطف كان يملكها وإنما عن أحلام مدمرة وعن انسحاق كامل لذكريات وأحلام شبابه ويذكرنا ذلك بدوستويفسكي الذي عاش تجربة حقير القبو حين كان خارج روسيا يلعب القمار في “بادن بادن” مما اضطره أن يعيش في فندق لا يقدم إلاّ الشاي بعد أن خسر كل ما كان يملكه، بما في ذلك باولين وقد أوحى هذا الموضوع لدوستويفسكي بفكرة رواية “الجريمة والعقاب” بنفس الطريقة التي استمد منها فكرة رواية “في قبوي” فالترابط بين “حقير القبو” ودوستويفسكي المنعزل في غرفة ضيقة حقيرة بعيدة عن العلم أوحى له بصراع مع وجود معادي، فسخر من ذكريات شبابه. الذكريات والأحلام التي كان يتمنى أن يحققها في حلقة “بتراشفسكي” والتي كانت السبب في نفيه إلى سيبيريا.. والعواطف والآمال التي بناها على زواجه من “ماريا” ثم الفشل الذي عاناه من علاقته مع “باولين” كل تلك الذكريات التي لربما سخر دوستويفسكي من نفسه، ومنها وهو يقبع وحيداً في غرفته بالفندق دون طعام، إنّما جعل “حقير القبو” يتحدث عنها بسخرية وتهكم وحقد “أنا رجل مريض أنا إنسان خبيث لست أملك شيئاً مما يجذب أو يفتن. ويهتف في نهاية الرواية على لسان “حقير القبو” وتأكيد لشخصه هو: (لقد دفعت في حياتي ما لم تجرؤوا أنتم أن تدفعوه إلاّ إلى النصف، هنا لا يحتاج إلى تفسير فالجملة تذكرنا بسيرة دوستويفسكي الذاتية.. وهي صرخة ناقمة على الفشل الذي كان بحلقة بتراشفسكي وانتهى بعلاقات عاطفية فاشلة خرج منها دوستويفسكي بائساَ فقيراً معدماً، مدمن قمار، سكيراً، فاشلاً في الحب والحياة معاً، أضف إلى ذلك أنه سجين لم يعره النقاد أي أدنى انتباه في يوم من الأيام عدا‏

كلمات السخرية التي كانت تنهال على مؤلفاته.‏
إن القصة الوحيدة القريبة من الأجواء العاطفية في رواية “في قبوي” هي علاقة “حقير القبو” بالمومس “ليزا” وهي علاقة تعيد إلى أذهاننا أحداث الجريمة والعقاب بإطار مغاير بعض الشيء.. (حقير القبو) يُفرغ كل ما يعتمل في نفسه من الحقد في المومس “ليزا” فيشتمها ويلعنها ثم يطردها.. وهذا الارتباط العاطفي الوحيد إنما هو ارتباط شاذ بين اثنين شاءت ظروفهما الاجتماعية أن يلتقيا على طريق الألم والتناقض الإنساني. ليست رواية “في قبوي” سوى قصة صغيرة بسيطة في إطار لطيف يدل على عبقرية دوستويفسكي، وقد كتبها أثناء احتضار زوجته وانقطاع علاقته بباولين مما يوضح النغمة الأساسية فيها حيث أنها واحدة من أقتم روايات القرن التاسع عشر بالنسبة لفكرة الإنسان في العالم السفلي.. الجريمة والعقاب “العالم السفلي” الجريمة والعقاب “العالم السفلي” (هكذا سقط الوهج الأبدي الذي أشعل الرمل، كما يقع الحجر تحت الزناد لمضاعفة الألم وكذلك في الأبله والشياطين وقد كتبها عندما كان في أوربا مع زوجته وفيها يحاول أن ينقذ المعايير الجمالية للعالم الإنساني. كما حاول “دون كيشوت” في رواية “سرفانتس” الشهيرة إنقاذ جمال العالم الإنساني من الشر الذي يقع فيه، هنا في رواية الأبله حيث تتحول العواطف والآلام إلى مزيج من رؤى جمالية ومن اختلاطات بعالم مسيحي كامل نعثر على شخصية دوستويفسكي “الحقيقية” دوستويفسكي الذي يريد أن يرى العالم الإنساني على حد تعبير إيفان كارامازوف (مليئا بالتناسق والانسجام خاليا من الشر والألم.

الأبله (الأمير ميشكين) الذي جاء من مصح شنايدر في سويسرا إلى روسيا يواجه منذ وصوله معنيين من معاني الجمال الأول “آجلايا ليبيديف” والثاني الجمال الكلاسيكي الكاثوليكي في حين أن الثانية هي الجمال الذي يستطيع أن ينقذ العالم على حد تعبير دوستويفسكي ذاته.‏
يحمل ميشكين قطعة نقد ذات وجهين. الوجه الأول توجد عليه صورة “آجلايا” والوجه الثاني عليه صورة “ناستاسيا” وقطعة النقد هذه هي الحد المدمر لفكرة الأمير ميشكين ذاته.. إنه المسيحي الذي دمرته امرأة الرمز الجمالي، الذي يبغي الجمال والذي دمره الجمال، أما العاطفة فليس لها في الرواية إلا دور رمزي حيث تحتل الرموز الجمالية المكان الأول.‏
ما الذي حل بمفهوم العاطفة والحب عند دستويفسكي ابتداء من روايته الأولى “الفقراء” وانتهاء بروايته الأخيرة “الإخوة كارامازوف”.‏
لم تعد العاطفة، وخاصة عاطفة الحب، في مفهوم دوستويفسكي، وخاصة في رواياته الأخيرة سوى ضريح من الآلام المصحوبة بتيارات العنف والهوى الجارف مع الشهوة العارمة ولم تعد تمثل ذلك النقاء وتلك البراءة اللتين نعثر عليهما في روايته الأولى “الفقراء”.. فالعاطفة هنا لم تعد عاطفة “مذلين مهانين” فقط وإنما عاطفة حاقدين يمتلؤون بالغيرة وينطبعون بطابع التدمير، لأنهم مدمرون أصلاً خاصة النساء واللائي يملكن دائماً ذلك الحقد الدفين والمخيف، وكأنه فطرة فيهن منذ نشأة الخليقة والذي يظهر في طفرة من طفرات اللاشعور في أغلب روايات دوستويفسكي.‏
تتجه العاطفة إذن لتأكيد مصير بطل آخر من أبطال دوستويفسكي وهذه المرة مصير ديمتري المنتظر خلف قضبان السجن كتأكيد درامي لفشل البطل العاطفي في الرواية الدوستويفسكية.‏
هناك في رواية “الأخوة كارامازوف” نماذج مرسومة بدقة لأشخاص يتحركون وفق مصائر يشغل‏

مركزها الدوافع السيكولوجية، “فإيفان كارامازوف” رجل الأفكار المثقف القادم من أوربا الغربية يقف على طرفي نقيض من ديمتري السلافي صاحب العاطفة الجياشة، واليوشا الأخ الأصغر القديس بقالب مسيحي محض يذكرنا بفلاسفة العصور الوسطى المدرسيين. مع أن دوستويفسكي حاول أن يوحي لنا في الرواية أن الحل كامن فيه، أما سميردياكوف الأخ غير الشرعي فهو لا يشكل مجرد “رجل نصف” بالنسبة لإيفان وإنما بالنسبة لفكرة العاطفة الموجودة في شخص ديمتري. فسمير دياكوف يمثل نصفاً غير كامل من كلا الأخين. نصفاً بالعاطفة ونصفاً بالأفكار، وهذا ما يجعله يرتبط بين الاثنين ويجعلهما مسؤولين بطريقة من الطرق عن موت الأب “فيودور” فجميعنا نعلم أن سميردياكوف هو الذي قتل الأب وألصق التهمة بديمتري في الوقت الذي يعمد فيه سميردياكوف إلى عملية القتل وهو يكلم إيفان.‏

خاتمة : تذكرنا القصص العاطفية في روايات دوستويفسكي بكوابيس الأفلام السينمائية الحديثة، علماً أنه ليس شكسبيرياً في نمطه إلاّ أنه كاتب نموذجي مخلص لعمله مبدع فيه، يدرس سيكولوجية الأفراد أكثر مما يخطط في رواياته. استطاع أن يحلل عاطفة الحب قبل أن يقوم فرويد بتشريح الدماغ الإنساني ومن ثم تحليل النفس الإنسانية. سبق علماء النفس في فهم سيكولوجية العاطفة، واستخراج الألم من جذور النفس البشرية، وأعطاه مفهوماً عميقاً توصل إلى أعمق أعماق النفس البشرية، وفصل بين الرجل والمرأة من الناحية السيكولوجية، وأعطانا مفهوماً عاماً عن العلاقات المشوشة القائمة بين النساء المريضات نفسياً، التائهات والمختلات عقلياً، وبين الرجال المندفعين بآمالهم وعواطفهم وحبهم الجامحين بخيال العبقرية، الذين يريدون أن يحققوها والتي يعانون منها كما عانى هو ذاته منها!‏

دوستويفسكي ذلك الكاتب الروائي الذي انتهت حياته بمثل ما بدأت عاصفة غاضبة هوجاء مترنمة من الغضب، ومتشامخة من كثرة العواطف الجياشة، عبقرية في عنفوانها، ومحببة في جبروتها، ومتألمة لمصيرها، ومصير بني البشر. سيمضي وقتٌ ووقت طويل قبل أن تبدأ حياة أخرى فريدة ومشابهة لحياته، ليس ككاتب فقط وإنما كشخص في هذا الوجود أيضاً.‏

شارك هذا المحتوى:

إرسال التعليق

ربما فاتك