الجزء 2: المرأة في مرآة التاريخ أنوثة قبل الأيديولوجيا

متابعة عبد الباقي البوجمعاوي 

قبل أن تتسلل النسوية إلى عقل المرأة لتقنعها أن تاريخها سلسلة من القيود وأن جسدها ساحة معركة، كانت الأنوثة شيئًا آخر تمامًا، كانت هوية كاملة لا تحتاج إلى إعادة تعريف، كانت كيانًا متصالحًا مع الفطرة، يحكمه الحياء، وتظله الرحمة، ويحرسه الوعي بدوره في استمرار الحياة، قبل أن تختطفه الأيديولوجيات وتُجرّده من كل ما يجعله حقيقيًا، ففي الحضارات القديمة لم تكن المرأة ذيلًا للرجل ولا ظلًا له، بل كانت في أحيان كثيرة تتقدم الصفوف، ففي مصر القديمة حكمت أحمس نفرتاري وأصدرت المراسيم، وفي سبأ قادت بلقيس مملكة وفاوضت نبي الله سليمان بحكمة تليق بحاكم، وفي الجاهلية – رغم كل قسوتها – كانت هناك نساء من طراز خديجة بنت خويلد يملكن التجارة ويدرن الأموال ويُحسِبن الرجال ألف حساب، لكن التحول الحاسم في مكانة المرأة لم تصنعه حضارة وثنية ولا إمبراطورية متغطرسة، بل جاء مع الإسلام الذي أخرجها من التبعية العمياء إلى الشراكة الكاملة، فوضعها في ميزان واحد مع الرجل أمام الله: “النساء شقائق الرجال”، ومنحها حق الإرث والبيع والشراء والتعليم والمشاركة، وأبطل وأدها طفلة، وحرم استعبادها أنثى، وجعل من أمومتها شرفًا، ومن عفتها تاجًا، ومن عقلها مناط تكليف، حتى أن أول من ناصر النبي ﷺ وآزره كان امرأة، وأول من علّم الصحابة علمًا كثيرًا كانت امرأة، وأول من جادل النبي في القرآن كانت امرأة، وهذا تاريخ موثق لا تملك النسوية حذفه، لكنه كان عقبة أمام مشروع التغريب الذي لم يكن يرضيه أن تكون المرأة المسلمة محصنة بدينها وتاريخها، فجاء الغرب الاستعماري بخططه الناعمة، فلم يرسل الجيوش لانتزاعها من بيتها، بل أرسل الأفكار لتنتزعها من عقلها، وبدأ بإعادة كتابة تاريخها بأقلامه، فصارت كل أدوارها السابقة تُصور كعبودية، وصار حجابها رمزًا للاضطهاد، وزواجها تقييدًا، وأمومتها عائقًا، وعفتها سذاجة، ثم بدأ الضخ الإعلامي عبر المجلات والمناهج والإذاعات والأفلام ليضع أمامها نموذج “المرأة الحرة” الذي لا يعرف إلا جسده، لا يزن قيمته إلا بقدر ما يكشف من لحمه، ولا يقيس نجاحه إلا بعدد نظرات الإعجاب أو الغيرة التي يثيرها، فانساقت بعض النساء المخدوعات وراء هذا الوهم، وقطعن جذورهن بأيديهن، ثم زُرعت في عقولهن قناعة أن الإسلام خصمهن الأول، مع أن أكثر الأنظمة قسوة وامتهانًا لجسد المرأة كانت في الغرب الذي يدّعي أنه حررها، فالغرب هو من حوّلها إلى بضاعة إعلانية، وإلى جسد على أغلفة المجلات، وهو من صنع تجارة الرقيق الأبيض، وهو من أسس صناعة الإباحية التي تبتلع النساء كالسلع وتنتهي بهن محطّمات نفسيًا وجسديًا، ثم جاء يبيع هذا الخراب في أسواقنا تحت اسم “المساواة” و”الحرية”، والحقيقة أن هذه المساواة ليست سوى نسخة قانونية من الدعارة العلنية، وأن هذه الحرية ليست سوى سلاسل جديدة، لكن بلون ذهبي براق، والنسوية لم تكن سوى الحصان الذي جُرّت به هذه العربة إلى مجتمعاتنا، لتزرع الشك في دين المرأة وتاريخها، وتقطع صلتها بميراث أجيال من الطهر والعزة، وتدفعها إلى اعتناق هوية هجينة لا هي غربية تمامًا ولا هي إسلامية، هوية ممسوخة تجعلها تعيش بلا جذور، بلا انتماء، وبلا ملامح، حتى إذا طالها الزمن وجدناها وحيدة في شقة باردة، تستيقظ على جسد ذابل، وذكريات علاقات عابرة، ونجاحات مهنية جافة لا تُشبع الروح، وقتها فقط تدرك – لكن بعد فوات الأوان – أنها كانت أداة في مشروع أكبر منها، مشروع لم يهدف يومًا لتحريرها، بل لاستغلالها حتى العظم، وحين يفرغ منها يرميها، كما تُرمى أي سلعة بعد أن تُستهلك، وهنا السؤال الذي ترفض النسوية مواجهته: كيف كانت المرأة قبل الأيديولوجيا؟ كانت أبهى، وأقوى، وأكثر صدقًا مع نفسها، لأنها كانت تعرف من هي، قبل أن يجيء من يخبرها أنها شيء آخر، لم تكن تحتاج إلى أن تُعلن قوتها كل يوم لأنها كانت تملكها بالفعل، ولم تكن تحتاج إلى أن تُنافس الرجل لأنها لم تر نفسها أقل منه، ولم تكن ترى جسدها سلاحًا لأنه لم يكن ساحة معركة أصلاً، كانت تعرف أن أنوثتها حصنها، وأن حياءها سلاحها، وأن دينها درعها، وحين خسرت كل هذا لم تربح شيئًا، سوى وهم يُباع لها على أنه الحرية، لكنه في حقيقته القيد الأخير الذي أُغلق على روحها

يتبع …

شارك المقال
  • تم النسخ
تعليقات ( 0 )

اترك تعليقاً

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)