مع الحدث
المتابعة ✍️: ذ لحبيب مسكر
في أحياء المغرب وأسواقه الشعبية، تبرز “الجوطية” أو ما يُعرف محليًا بـ”البال” كسوق نابض بالحياة، يجذب آلاف المتسوقين يوميًا من مختلف الطبقات الاجتماعية. إنها فضاء لبيع الملابس والأدوات المستعملة، وأحيانًا الجديدة، بأسعار رمزية تجعلها في متناول الجميع، خاصة في ظل موجات الغلاء التي تُثقل كاهل الأسر المغربية.
هذه الأسواق لم تعد مجرد ظاهرة تجارية عابرة، بل أصبحت ملاذًا حقيقيًا لفئات واسعة من المجتمع، تبحث عن الكرامة والتوفير دون التخلي عن حاجياتها الأساسية.
من تبرعات الخارج إلى قُرب منازل المغاربة
تعود أغلب المعروضات في “البال” إلى تبرعات خيرية من دول أوروبية وأمريكية، يتم تجميعها ثم بيعها بالجملة لتجار مغاربة. وهناك، في قلب الجوطية، تبدأ رحلة جديدة لهذه الملابس، الأحذية، الأجهزة الصغيرة وحتى الأثاث، حيث يعاد عرضها بأسعار تبدأ من دراهم معدودة، وتصل أحيانًا إلى قطع نادرة ذات جودة عالية.
ورغم كون بعضها مستعملًا إلا أن كثيرًا من هذه القطع لا تزال في حالة جيدة، بل إن البعض منها لم يُستخدم قط. وهو ما يجعل المتسوقين يعتبرون أنفسهم “محظوظين” عند عثورهم على كنز صغير بسعر رمزي.
أناقة بأقل التكاليف: حين تجد ماركات عالمية بثمن فنجان قهوة
من بين أسباب الإقبال الكبير على “الجوطية” أن الزبائن كثيرًا ما يفاجَؤون بقطع تحمل أسماء أشهر الماركات العالمية، بأسعار قد لا تتجاوز ثمن فنجان قهوة. في أكوام الملابس المعروضة، تختبئ سترات “Zara”، أو أحذية “Nike”، أو حتى قطع نادرة من علامات أوروبية وأمريكية معروفة.
هذه اللحظات تشكّل متعة حقيقية للكثيرين، حيث يجمع الزبون بين متعة الاكتشاف والتوفير في آنٍ واحد. تقول سلمى، طالبة جامعية: “أحيانًا أشتري ملابس ماركات لا أستطيع دخول محلاتها، من الجوطية بـ20 درهم فقط. الأمر يشبه صيد الكنز!”
“البال”: ملاذ للمستهلك الذكي بين الملابس، الآلات، والأثاث
لا تقتصر “الجوطية” على الملابس فقط، بل تضم أيضًا مجموعة واسعة من الأجهزة المنزلية الصغيرة، والآلات، والأثاث المستعمل الذي يعفي الكثير من الأسر من الحاجة لشراء جديد، وبالتالي تجنب دفع فواتير مرتفعة.
في هذه الأسواق يمكن للمتسوق أن يجد مثلاً ثلاجات صغيرة، مراوح، أو حتى طاولات وكراسي بحالة جيدة وبأسعار زهيدة جداً، مما يجعل “البال” خيارًا اقتصاديًا متكاملاً يغطي حاجات الأسرة المختلفة.
ملابس للجميع… وأناقة للجميع
لا يقتصر زوار “الجوطية” على فئة اجتماعية محددة، بل تشمل الجميع: من الموظفين إلى الطلبة، ومن ربات البيوت إلى الشباب الباحثين عن الأناقة بأسلوب “فينتاج”. كثير من الزبائن يقصدون هذه الأسواق لا لشراء الضروري فقط، بل لاكتشاف قطع مميزة من ماركات عالمية، يصعب العثور عليها في المتاجر العادية أو بأسعار معقولة.
تقول فاطمة أم لطفلين: “الجوطية أنقذتني في فترات كثيرة، أجد فيها ملابس جيدة لأطفالي بأقل التكاليف، دون أن أشعر بالحرج أو الحاجة.”
“البال” في خدمة الاقتصاد المنزلي
تعتبر أسواق “البال” متنفسًا حقيقيًا للأسر ذات الدخل المحدود، التي تجد نفسها مضطرة لتدبير ميزانياتها بحذر. في ظل ارتفاع أسعار الملابس الجديدة، أصبحت الجوطية خيارًا عقلانيًا لا يُستهان به، حيث يستطيع الفرد شراء أكثر من قطعة بثمن وجبة غداء بسيطة.
ولم يعد الأمر مرتبطًا بالفقر فقط، بل أصبح ثقافة استهلاكية ذكية، حيث يُعيد الناس تقييم علاقتهم بالاستهلاك، ويتجهون نحو حلول أكثر استدامة وتوفيرًا.
فرصة لمهن جديدة ومصدر رزق
لا تقتصر فوائد “البال” على المستهلكين فقط، بل تمتد لتشمل المئات من البائعين الذين اتخذوا منها مصدر رزق كريم. من تجار الجملة إلى الباعة المتجولين، ومن من يقومون بفرز البضائع إلى من يصلحها أو يعيد تنظيفها، خلقت هذه الأسواق شبكة معيشية تعتمد عليها أسر بأكملها.
يقول مصطفى بائع منذ أكثر من 10 سنوات: “كبر أولادي من تجارة البال، والحمد لله، الناس تقبل على هذه السلع لأنها في متناول الجميع.”
البال… ثقافة اجتماعية واقتصاد بديل
تُظهر أسواق “الجوطية” كيف يمكن للاقتصاد الشعبي أن يلعب دورًا اجتماعيًا واقتصاديًا في حياة الناس. فهي ليست فقط مكانًا للبيع والشراء، بل فضاءً للتواصل، والمساعدة، والحفاظ على الكرامة في وقت صعب.
وبينما يبحث العالم عن نماذج اقتصادية أكثر استدامة، يثبت “البال” أنه أحد الأشكال البسيطة والفعالة في إعادة التدوير، وتمكين الناس، والحفاظ على التوازن في ميزانياتهم اليومية.
خاتمة
سوق “الجوطية” أو “البال” ليس مجرد مساحة لبيع المستعمل، بل هو تعبير صادق عن روح التضامن والاكتفاء الذاتي لدى المغاربة. إنه اقتصاد شعبي يحمل في طياته قيمًا من التعاون، والتوفير، والكرامة، ويؤكد أن البساطة لا تعني الفقر، بل قد تكون شكلًا من أشكال الذكاء والقدرة على التكيف مع تحديات الحياة.
تعليقات ( 0 )