القانون المغربي من الاستقلال إلى ما بعد الدستور: مسار بناء دولة الحق والمؤسسات بين الأصالة والتحديث - m3aalhadet مع الحدث
قالب مع الحدث |أخبار 24 ساعة

القانون المغربي من الاستقلال إلى ما بعد الدستور: مسار بناء دولة الحق والمؤسسات بين الأصالة والتحديث

الدستور-المغربي-780×405

منذ أن استعاد المغرب استقلاله سنة 1956، دخل في مرحلة جديدة من تاريخه، مرحلة بناء الدولة الحديثة على أسس قانونية ومؤسساتية متينة، فالقانون المغربي لم يكن وليد اللحظة، بل هو امتداد لتاريخ طويل من التنظيمات والأنظمة العرفية والشرعية التي عرفها المغرب قبل الحماية، حيث كانت الشريعة الإسلامية والعرف المحلي هما المصدران الأساسيان للتشريع، إلى جانب الظهائر الشريفة التي يصدرها السلطان لتنظيم شؤون الدولة والمجتمع، وبعد الاستقلال بدأت عملية التوفيق بين هذه المرجعيات التقليدية وبين متطلبات الدولة الحديثة

قبل الاستقلال، كان المغرب يعيش تحت نظام الحماية الفرنسية والإسبانية، حيث فرضت سلطات الاستعمار منظومة قانونية مزدوجة: قوانين استعمارية موجهة لتسيير مصالح الإدارة الأجنبية، وقوانين محلية تُطبَّق على المغاربة في مجالات محدودة مثل الأحوال الشخصية والأوقاف، وكان الهدف من ذلك تقليص السيادة القانونية المغربية وإدماج البلاد في النظام القانوني الفرنسي، لكن رغم ذلك ظل القضاء الشرعي والأعراف القبلية قائمة، وهو ما ساعد المغرب بعد الاستقلال على إعادة بناء نظامه القانوني انطلاقاً من أصوله الخاصة

بعد الاستقلال سنة 1956، بدأ المغرب مرحلة تأسيسية حقيقية لإرساء دولة القانون، فتم إنشاء مؤسسات وطنية جديدة، وإصدار أولى القوانين الوطنية التي تعبر عن السيادة المغربية الكاملة، مثل ظهير توحيد القضاء سنة 1957 الذي أنهى النظام القضائي المزدوج بين الفرنسي والمغربي، وأعاد للمحاكم المغربية سلطتها على جميع المواطنين دون تمييز، كما صدر ظهير تنظيم وزارة العدل وقانون المسطرة الجنائية وقانون المسطرة المدنية لتنظيم العلاقة بين الدولة والمواطن في مجال القضاء، وتم اعتماد مدونة الأحوال الشخصية سنة 1957 – 1958 التي نظمت قضايا الأسرة وفقاً للشريعة الإسلامية المالكية

وفي سنة 1962، عرف المغرب محطة تاريخية مهمة بإصدار أول دستور للمملكة المغربية، الذي وضع الأسس الدستورية لنظام الحكم الملكي الدستوري، ورسّخ مبدأ فصل السلط، وأكد على سيادة القانون واستقلال القضاء، كما نصّ على أن “الملك هو الضامن لاستقلال البلاد وحامي حمى الدين”، وهو ما أعطى طابعاً خاصاً للتجربة المغربية التي جمعت بين الأصالة والحداثة، بين المرجعية الإسلامية والشرعية الدستورية الحديثة

بعد دستور 1962، توالت سلسلة من الإصلاحات القانونية والدستورية، فأُعيد النظر في الدستور عدة مرات (1970، 1972، 1992، 1996) لتوسيع صلاحيات البرلمان والحكومة وإدخال إصلاحات مؤسساتية تواكب تطور المجتمع المغربي، وفي كل مرحلة كان القانون المغربي يزداد نضجاً وتنوعاً، فتم سن قوانين لتنظيم الجماعات المحلية، والوظيفة العمومية، والتعليم، والإدارة، والاقتصاد، كما صدر قانون الصحافة والنشر، وقانون الجمعيات الذي منح للمجتمع المدني مساحة للمشاركة في الحياة العامة

في التسعينات، دخل المغرب مرحلة جديدة عنوانها الإصلاح والدمقرطة، حيث برزت قضايا حقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية في قلب النقاش الوطني، فتمت مراجعة القوانين لتتلاءم مع المواثيق الدولية التي صادق عليها المغرب، وأُحدث المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان سنة 1990 الذي تحول فيما بعد إلى المجلس الوطني لحقوق الإنسان، وهو ما جعل القانون المغربي أكثر انفتاحاً ومرونة في التعامل مع المفاهيم الحقوقية الحديثة

التحول الأكبر في التاريخ القانوني للمغرب جاء مع دستور 2011 الذي اعتُبر ثورة هادئة في مسار بناء الدولة الحديثة، فقد جاء هذا الدستور في سياق وطني وإقليمي خاص، استجابة للتطلعات الشعبية للإصلاح السياسي والديمقراطي، وأقرّ مجموعة من المبادئ الجديدة التي نقلت المغرب إلى مرحلة متقدمة من حكم القانون، حيث نصّ على أن “القانون هو أسمى تعبير عن إرادة الأمة”، وجعل من حقوق الإنسان كما هي متعارف عليها عالمياً مرجعاً أساسياً للتشريع الوطني، كما أكد على فصل السلط واستقلال القضاء، وكرّس مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة والحكامة الجيدة

من بعد دستور 2011، دخل المغرب في مرحلة جديدة من تحديث المنظومة القانونية، حيث تم إصدار العديد من القوانين التنظيمية التي تفسر وتفعل مقتضيات الدستور، مثل قانون الجهة والجماعات الترابية الذي أسس لمفهوم الجهوية المتقدمة، وقانون الحق في الحصول على المعلومة، وقانون محاربة الرشوة، وقانون استقلال السلطة القضائية، إلى جانب القانون الجنائي الجديد الذي يسعى إلى تحقيق توازن بين الردع وحماية الحقوق الفردية، كما تم إصدار مدونة الأسرة الجديدة سنة 2004 بفضل التوجيهات الملكية السامية، والتي شكلت نقلة نوعية في مجال حقوق المرأة والطفل والمساواة داخل الأسرة

القانون المغربي اليوم أصبح منظومة متكاملة تجمع بين الأصالة الدينية والمرجعية القانونية الحديثة، فالشريعة الإسلامية ما زالت مصدراً أساسياً في الأحوال الشخصية، بينما تعتمد القوانين المدنية والتجارية والبيئية على المعايير الدولية والممارسات الحديثة، كما أصبح المغرب عضواً فاعلاً في المنظمات القانونية والحقوقية الدولية، وصادق على اتفاقيات كثيرة تخص البيئة وحقوق الإنسان ومحاربة الجريمة المنظمة

في الجانب البيئي، أُصدر القانون الإطار رقم 99-12 حول البيئة والتنمية المستدامة، والقانون رقم 36-15 المتعلق بالماء، وهي نصوص تؤكد أن القانون المغربي لم يعد يهتم فقط بالتنظيم البشري بل أيضاً بحماية الطبيعة والموارد، في انسجام مع رؤية ملكية تعتبر البيئة حقاً من حقوق الأجيال القادمة

باختصار، القانون المغربي من الاستقلال إلى ما بعد الدستور مرَّ بثلاث مراحل رئيسية:
الأولى مرحلة التأسيس (1956 – 1962) حيث تم بناء مؤسسات الدولة وتوحيد القضاء وإصدار القوانين الأساسية،
الثانية مرحلة الإصلاح والتقنين (1962 – 2011) التي شهدت تحديث المنظومة القانونية وتوسيع الحقوق والحريات،
والثالثة مرحلة التكريس والتنزيل (2011 – 2025) التي تقوم على ترسيخ دولة القانون وتفعيل المبادئ الدستورية في الواقع العملي

وهكذا، استطاع المغرب أن يبني خلال سبعين سنة منظومة قانونية متينة ومتطورة، تحافظ على هويته الإسلامية والوطنية، وتواكب في الوقت نفسه تطورات العصر ومتطلبات العدالة الاجتماعية والاقتصادية، في ظل قيادة ملكية جعلت من الدستور والقانون أساساً للاستقرار والكرامة والتنمية المستدامة.

Leave a Reply

1000 / 1000 (Number of characters left) .

Terms of publication : Do not offend the writer, people, or sacred things, attack religions or the divine, and avoid racist incitement and insults.

Comments

0
Commenters opinions are their own and do not reflect the views of m3aalhadet مع الحدث