مع الحدث
بقلم ✍️: الدكتور محمد الطيار
استكمالا لنشر الورقة المرجعية التي أعدها الدكتور مولاي بوبكر حمداني، المتخصص في العلاقات الدولية ورئيس مركز التفكير الإستراتيجي والدفاع عن الديمقراطية، على أجزاء، وتحت عنوان: “مداخل تنزيل مبادرة الحكم الذاتي المغربية بالصحراء”.
حيث تناول في الجزء الأول منها “المدخل الأممي: المرجعية القانونية، الآلية الراعية، وتحديات الوساطة في بيئة متوترة”. نضع بين يدي القراء الجزء الثاني الذي يتناول المدخلين الدبلوماسي والسياسي.
المدخل الدبلوماسي: بناء التوافق وتوسيع دائرة الاعتراف
وفقاً لما استقر عليه العمل فان بناء توافق دولي واسع حول وجاهة وواقعية المبادرة المغربية للحكم الذاتي كحل سياسي أمثل للنزاع، وتوسيع دائرة الاعتراف الدولي والإقليمي بهذا التوجه يعتمد بالضرورة على قدرة الدبلوماسية المغربية، على نسج شبكة علاقات قوية ومتنوعة، وشرح أبعاد المبادرة ومزاياها القانونية والسياسية والتنموية، وتفنيد الأطروحات المضادة التي لا تزال تتمسك بخيارات متجاوزة أثبتت عدم قابليتها للتطبيق، وإقناع المنتظم الدولي بأن الحكم الذاتي الموسع تحت السيادة المغربية يمثل التوليفة المثلى التي توازن بين متطلبات القانون الدولي بما في ذلك التفسير الحديث لحق تقرير المصير الداخلي، وضرورات الحفاظ على الاستقرار الإقليمي، واحترام الوحدة الترابية للدول القائمة، وتلبية التطلعات الديمقراطية لسكان المنطقة في تدبير شؤونهم بأنفسهم.
ولقد ترتب عن هذا المسار زخم لافت في السنوات الأخيرة، تجسد في تحولات نوعية في مواقف العديد من الدول الوازنة، فالاعتراف الأمريكي الصريح بسيادة المغرب على صحرائه في ديسمبر 2020، والذي أعادت الإدارة الحالية تأكيده وبشكل أكثر تحديداً على دعم الحكم الذاتي “الحقيقي”، شكل منعطفاً جيوسياسياً هاماً في هذا الملف، كما أن المواقف الداعمة التي عبرت عنها دول أوروبية مركزية كإسبانيا وألمانيا وهولندا، والموقف المتقدم لفرنسا والتي اعتبرت المبادرة المغربية “الأساس الأكثر جدية وواقعية ومصداقية” لحل النزاع، تعكس تحولاً في القراءة الأوروبية لملف الصحراء نحو مزيد من الواقعية السياسية.
ينضاف إلى ذلك، الدعم الثابت والتقليدي من الدول العربية الشقيقة، والدعم المتزايد من عدد كبير من الدول الإفريقية، الذي تجلى بوضوح في افتتاح ما يزيد عن ثلاثين قنصلية عامة لدول من إفريقيا والعالم العربي وأمريكا اللاتينية والكاريبي في مدينتي العيون والداخلة، هذه القنصليات التي لا تمثل مجرد اعتراف دبلوماسي رمزي، بل هي تجسيد عملي وقانوني وسياسي للاعتراف بسيادة المغرب على أقاليمه الجنوبية، وثقة في المسار التنموي الذي تشهده، وإقرار بوجاهة مبادرة الحكم الذاتي كإطار مستقبلي يضمن الاستقرار والسلم.
ولعله من ابرز متطلبات تنزيل الحكم الذاتي مواصلة نهج الدبلوماسية متعددة المستويات في مختلف دوائر السياسة الخارجية المغربية مع تكثيف الحوار الثنائي مع القوى الكبرى والشركاء الإقليميين؛ وتعزيز الحضور والتأثير في اطارا الدبلوماسية متعددة الأطراف داخل المنظمات الدولية والإقليمية (الأمم المتحدة، الاتحاد الأوروبي، الاتحاد الإفريقي، جامعة الدول العربية، مجلس التعاون الخليجي)، مع توظيف الدبلوماسية البرلمانية والاقتصادية والثقافية والروحية لتعزيز الموقف الوطني؛ بناء تحالفات وشراكات استراتيجية قائمة على المصالح المشتركة والاحترام المتبادل؛ والاستثمار في “القوة الناعمة” (Soft Power) للمغرب كنموذج للاستقرار والإصلاح والتنمية والانفتاح في منطقة مضطربة.
وأخذاً في الاعتبار ما سبق ذكره يقتضي الأمر مواصلة تقديم الأدلة الملموسة للمجتمع الدولي حول التزام المغرب الراسخ بتنمية الأقاليم الجنوبية، وتحسين الظروف المعيشية لسكانها، وتمكينهم من المشاركة الديمقراطية في تدبير شؤونهم المحلية، وهو ما تجسد في النموذج التنموي الجديد للأقاليم الجنوبية ومعدلات المشاركة السياسية المرتفعة.
من هنا يصبح حشد دعم دولي واسع ومتزايد لا يقتصر على توفير الغطاء السياسي اللازم للمبادرة المغربية في المحافل الدولية، بل يساهم أيضاً في خلق بيئة دولية ضاغطة على الأطراف الأخرى، خاصة الجزائر، للانخراط بشكل بناء وواقعي في المسار الأممي، والتخلي عن المواقف المتصلبة التي تعيق التوصل إلى حل، ويزيد من فرص تأمين الضمانات الدولية اللازمة لاستدامة أي اتفاق يتم التوصل إليه، كما انه عنصر حاسم في نجاح عمليات تسوية النزاعات.
المدخل السياسي: بناء الإجماع الوطني، تعزيز الديمقراطية المحلية، وتمكين المشاركة
تأسيساً على التجارب والممارسات الفضلى فلن تكتمل فعالية المقاربة الدولية والأممية دون قاعدة داخلية صلبة، وهنا تبرز أهمية المدخل السياسي كشرط أساسي لنجاح تنزيل مبادرة الحكم الذاتي، حيث تميز المقترح المغربي بكونه نابعاً من توافق وطني واسع، تجلى في الإجماع الذي حظيت به المبادرة منذ تقديمها من قبل مختلف مكونات الطيف السياسي المغربي بعد مشاورات موسعة، شملت على وجه الخصوص المجلس الملكي الاستشاري للشؤون الصحراوية (الكوركاس)، الذي يضم ممثلين عن سكان الأقاليم الجنوبية مرورا بالأحزاب السياسية بأغلب توجهاتها، والمؤسسات الدستورية، والنقابات، وصولا الى فعاليات المجتمع المدني.
هذا الإجماع الوطني منح المبادرة قوة دفع داخلية وحصنها ضد أي محاولات للتشكيك في شرعيتها أو تمثيليتها، بيد إن الانتقال من الإجماع على المبدأ إلى التنزيل العملي يتطلب جهداً سياسياً متواصلاً لتعميق هذا التوافق وترجمته إلى انخراط فعلي من كافة الفاعلين على الصعيدين الوطني والمحلي وهو ما يستلزم من جهة مواصلة النقاش العمومي البناء والمفتوح حول مضامين الحكم الذاتي، وشرح تفاصيله وأبعاده وآثاره المتوقعة على حياة المواطنين في الأقاليم الجنوبية، وتوضيح طبيعة الصلاحيات الواسعة التي ستنقل إلى الهيئات الجهوية المنتخبة (التشريعية والتنفيذية والقضائية المحلية)، والعلاقة التي ستربطها بالسلطات المركزية، وآليات تدبير الموارد الطبيعية، وضمانات الحفاظ على الوحدة الوطنية والهوية الثقافية الحسانية، ومن جهة ثانية تعزيز وتعميق الممارسة الديمقراطية على أرض الواقع في الأقاليم الجنوبية، باعتبارها المختبر الحقيقي والضمانة الأساسية لنجاح الحكم الذاتي من خلال تقوية دور وصلاحيات المؤسسات المنتخبة الحالية (المجالس الجهوية والإقليمية والجماعية)، وتمكينها من ممارسة اختصاصاتها الفعلية في إطار الجهوية المتقدمة، التي تعتبر بحد ذاتها خطوة تحضيرية هامة نحو الحكم الذاتي.
فضلاً عما تقدم تعتبر معدلات المشاركة السياسية المرتفعة التي تسجلها الأقاليم الجنوبية في مختلف الاستحقاقات الانتخابية (التشريعية والجماعية والجهوية)، والتي تفوق باستمرار المعدل الوطني، مؤشراً قوياً على انخراط الساكنة الصحراوية في المسلسل الديمقراطي المغربي، وتشبثها بمؤسسات بلادها، ورغبتها الأكيدة في تدبير شؤونها بنفسها ضمن إطار السيادة المغربية والوحدة الترابية.
ولا مناص من القول إن نجاح المدخل السياسي يكمن في القدرة المستمرة على بناء وتعزيز جسور الثقة بين الدولة المركزية والمواطنين والفاعلين المحليين في الأقاليم الجنوبية، وضمان تمثيلية ديمقراطية حقيقية وفعالة لجميع مكونات المجتمع الصحراوي في المؤسسات الحالية والمستقبلية، وتوفير فضاء سياسي مفتوح وتعددي يسمح بالتعبير عن مختلف الآراء والمطالب في إطار القانون والمؤسسات الدستورية، وهذا يتطلب مقاربة تشاركية حقيقية تدمج المواطنين والمنتخبين المحليين في عملية صنع القرار وتنفيذ السياسات العمومية، وتضمن استجابة المؤسسات لاحتياجاتهم وتطلعاتهم، مما يرسخ الشعور بالمواطنة الكاملة ويقطع الطريق على أي محاولة لاستغلال الفراغ أو التهميش المفترض.
تعليقات ( 0 )