المسرح في عُمان: حيث تلتقي الظلال بالضوء

متابعة: عبد الصمد عراك
تحرير :ايمان وليب

على أرض سلطنة عُمان، تلك التي تنام على صوت البحر وتستيقظ على أنين الجبال، يُولد المسرح كل يوم في أعماق الروح الثقافية للأمة. إنه فنٌ يشبه قصيدة معلقة، تروي قصة الناس والأرض، وتحاكي أحلام المستقبل. وفي عالم المسرح العُماني، تتشابك خيوط الماضي بآمال الحاضر، لتصنع رؤى جديدة وآفاقاً أكثر رحابة.
البداية: حلم الضوء في أرض الأصالة

كان المسرح في عُمان أشبه ببذرة زرعت في أرض خصبة، حيث استقت ماءها من ينابيع التاريخ العريق. بدأت الرحلة الأولى مع المدارس السعيدية في أربعينيات القرن الماضي، حينما كانت تلك المدارس أكثر من مؤسسات تعليمية؛ بل ساحاتٍ لتشكيل الوعي وإشعال جذوة الإبداع في قلوب الشباب.
تلك البدايات لم تكن مجرد خطوات عابرة، بل كانت ولادة لرؤية جعلت من المسرح أداةً للتعليم والتواصل الثقافي. ومن هنا، بدأت التجربة تتوسع لتشمل مسارح الأندية الثقافية ومسرح الشباب، حيث كان العرض المسرحي لقاءً بين القلوب قبل أن يكون مجرد فنٍ على الخشبة.
المسرح: مرآة الماضي وعدسة المستقبل

منذ نشأته، حمل المسرح العُماني هاجس الجمع بين الحفاظ على التراث والبحث عن الحداثة. العروض المسرحية الأولى كانت تنبض بروح الأصالة، تعكس قصص الصحراء وملامح الحياة اليومية، وتحاكي أمجاد الماضي العريق.
لكن مع مرور الوقت، أدرك المسرحيون العُمانيون أن المسرح لا يجب أن يبقى أسيراً للماضي. كان لابد من الانطلاق نحو مستقبل يتكئ على التراث، لكنه يفتح نافذة على العالم. وهكذا، بدأت الحركة المسرحية في السلطنة تأخذ منعطفاً جديداً، تسعى فيه لدمج التراث المحلي بالتقنيات الحديثة، لتقدم للجمهور تجربة مغايرة تستلهم الأصالة وتحتفي بالإبداع المعاصر.
الرؤية العمانية للمسرح: دروبٌ نحو التجديد

المسرح العُماني اليوم يقف على أعتاب مرحلة جديدة، يتطلع فيها إلى العالمية دون أن يتخلى عن هويته. أعمال كثيرة شهدناها في السنوات الأخيرة قدمت تجربة بصرية ومضمونية فريدة، مثل تلك التي استلهمت قصائد الشعراء العُمانيين، أو التي استعانت بالتكنولوجيا لإضفاء أبعاد جديدة على العروض.
في مهرجان المسرح العربي الأخير، الذي استضافته السلطنة، أُثيرت تساؤلات مهمة حول كيفية تحقيق التوازن بين الهوية المحلية والانفتاح على الحداثة. المشاركون أجمعوا على أن المسرح العُماني قادر على المنافسة عربياً وعالمياً، إذا ما واصل الاستفادة من التقنيات الحديثة مثل السينوغرافيا الرقمية، وأبدع في تقديم النصوص التي تعكس الواقع المعاصر بأسلوب ممتع وهادف.
المرأة العُمانية: شريكة المسرح وصانعته

في أعماق المسرح العُماني، هناك صوتٌ آخر يعلو، هو صوت المرأة التي تركت بصمتها الواضحة في مسيرة هذا الفن. لم تكن المرأة العُمانية مجرد متفرجة أو داعمة للمسرح، بل كانت حاضرة كممثلة وكاتبة ومخرجة، تشارك في صنع القصص التي تسرد أحلام المجتمع وطموحاته.
حضور المرأة في المسرح العُماني كان انعكاساً لرؤية السلطنة في دعم المساواة الثقافية وتشجيع المرأة على الإبداع. وقد أثمرت تلك الجهود عن أسماء نسائية بارزة ساهمت في تشكيل ملامح المسرح الحديث، وأسهمت في إثراء الحوارات الفنية من خلال وجهات نظر مختلفة وغنية.
المسرح والرقمنة: رحلة نحو المستقبل

في زمن تسود فيه التكنولوجيا وتتحكم فيه السرعة، يقف المسرح العُماني أمام تحدٍ كبير: كيف يمكنه أن يظل قريباً من قلوب الناس في عصر العروض الرقمية؟
لقد أدرك المسرحيون في السلطنة أن التكنولوجيا ليست عائقاً، بل يمكن أن تكون أداة لفتح آفاق جديدة. خلال المؤتمرات وورش العمل، قُدمت مقترحات عديدة لتوظيف الذكاء الاصطناعي وتقنيات الواقع الافتراضي في العروض المسرحية.
تخيل عرضاً مسرحياً يبدأ في قاعة العرض، لكنه يمتد إلى هواتف الجمهور، حيث يمكنهم التفاعل مع الشخصيات من خلال تطبيقات ذكية. أو تخيل سينوغرافيا تستبدل الديكور التقليدي بتقنيات ثلاثية الأبعاد، تجعل كل مشهد أقرب إلى لوحة فنية حية.
المسرح كجسر بين الثقافات

لم يكن المسرح العُماني يوماً حبيس حدود الجغرافيا. على العكس، كان دائماً جسراً يربط عُمان بالعالم. من خلال المشاركة في المهرجانات العربية والدولية، استطاع المسرح العُماني أن يُعرّف العالم بقصصه وحكاياته، ويجلب تجارب جديدة تغني حركته الفنية.
في مهرجان المسرح العربي، تكرست فكرة أهمية التعاون بين الفرق العُمانية ونظيراتها العالمية. هذا التعاون لا يقتصر على تبادل النصوص والعروض، بل يمتد ليشمل ورش العمل المشتركة وتبادل الخبرات في مجال الإخراج والتمثيل والتقنيات.
توصيات: خطوات نحو النهضة

ختاماً، كان المؤتمر الفكري الذي نُظم ضمن مهرجان المسرح العربي بمثابة خريطة طريق نحو مستقبل أكثر إشراقاً. خرج المشاركون بتوصيات عدة، أبرزها:
تأسيس أكاديميات متخصصة للفنون المسرحية تتيح للشباب تعلم أصول هذا الفن.
دعم النصوص المسرحية التي تستلهم قضايا المجتمع العُماني.
تعزيز الإنتاج المشترك مع الفرق العربية والدولية.
تبني التكنولوجيا الحديثة كوسيلة لإثراء العروض المسرحية.
دعم المبادرات التي تعزز دور المرأة في المسرح.
ختام بألوان الأمل

المسرح في عُمان ليس مجرد فن، بل هو نبض أمة وقصة أرض. إنه فضاء تلتقي فيه الأصوات والظلال، ليصنع حواراً ممتداً بين الماضي والمستقبل.
وفي رحلة الضوء التي يسلكها المسرح العُماني، ستظل السلطنة منارةً تُضيء الدروب، حاملةً على خشباتها حلم الإنسانية ورسائل الجمال والسلام.
ولكن يبقى السؤال: كيف يمكن للمسرح العُماني أن يبقى رائداً في ظل التغيرات السريعة في عالم الفن والثقافة، محافظاً على هويته ومرحباً بكل جديد؟

Share this content:

إرسال التعليق

الاخبار الاخيرة