جاري التحميل الآن

جذورٌ وانتماء…

لميا أ. و. الدويهي.لبنان

لم يكن يومًا الإرثُ الذي يتناقلُه الأبناء عن الآباء وصولًا إلى الأحفاد، هو فقط عبارة عن أملاكٍ وماديَّاتٍ بِحتة وإنَّما عن فكرٍ ونهجٍ وصبغة وطابعٍ وغيرها من الأمور التي تُميِّزُ الأفراد والعائلات والجماعات…
لا أحد يُنكرُ أهميَّةَ المال والماديَّات والأملاك، فهي تمنحُ نوعًا من الاستقرار والأمان… وإنَّما هناك أمرٌ يفوقُ كلَّ تلك الأمور رِفعةً وشأنًا: إنَّهُ إِرثُ العائلة وتاريخُها؛ إنَّهُ الجهادُ والكِفاحُ الذي تتركُهُ كلُّ عائلة ناضَلَت لأجلِ الاستمراريَّة، إن من خلال النَّسلِ وإن من خلال ما تتركُهُ من مُدخراتٍ مهما كان نوعُها…
طبعًا، الإنسان هو أهمُّ ما يبقى وسلامته واكتفاؤه والعَيش بكرامة هي الأمور الأهم… ولكن الانتماء لماضي الأجداد والآباء يمنح المعنى الحقيقي لما يتمُّ توارُثَهُ عبرَ الأجيال… وهذا ما يُعلِّمُ الإنسان، ليس فقط الانتماء إلى العائلة وإنَّما الأرض والوطن، خُصوصًا إذا ما قد وصَلَ إلى الأبناء ما هو جنى وتعب وكدّ سنين…
بيع وشراء العقارات والمنازل هو أمرٌ مُعترفٌ به ومُشرَّع وهو حالة من الطبيعيِّ أن تحدثَ بين أبناء البلدة الواحدة أو الوطن الواحد… ولكن إن كان مَن أوجدَ هذا المنزل أو ذاك من العدم هو أحدُ الأجداد وقد عملَ جاهدًا على دمغِ أثرِ هذه العائلة أو تلك بالبيت الوالدي، يُصبحُ لما يتمُّ توارثُهُ معنىً آخرًا وبُعدًا مُختلفًا…
أرى بأنَّ البيعَ مُحتَّمٌ في حال عدمِ توفُّرِ الأموال للاستشفاء مثلاً أو للتعليم أو لتخليص أحدِ أفرادِ العائلة من مُصيبةٍ قد وقع فيها… وفي حالِ عدم توفُّر ما هو ضرورة قُصوى يُصبحُ البَيع كاستهتارٍ بهذا الإرث وبمُعاناةِ أجدادِنا الذين قد حرموا أنفسهم من ملذَّاتٍ مُعيَّنة ليُشيدوا لنا ما يجعلنا مُنتمين إلى الأرض، إلى الوطن، إلى الجُذور…
لا، لا يتعلَّقُ الأمر بالمال التي قد تُجنى في حالِ البيع، ولا بالقيمة الماديَّة المُضافة، عِلمًا بأنَّ الأزمة الاقتصاديَّة التي عَصفت بلبنانَ مؤخَّرًا أكَّدت بأنَّ المالَ ليسَ بثابتٍ وبأنَّ القيمةَ النَّقديَّة قد تنهار وبأنَّ الأقوى هو مَن يمتلكُ عِقارًا أو منزلًا يعودُ إليه ويتلطَّى تحتَ سقفه… الأمرُ يتعلَّقُ بالقيمة المعنويَّة، بالانتماء، بالانتساب، بالإرثِ الذي يتناقلهُ الأبناء عن الآباء والأجداد…
ما يبني الإنسانُ من الداخل، ليست فقط المعلومات والعلم والثقافة التي يكتسبها مع مرور الوقت، وإنَّما أيضًا تاريخُ انتمائه وهويَّتُهُ ومبادؤهُ… كُلُّها أمورٌ تطبعُ كيانَهُ قلبًا وقالبًا وتُحدِّدُ شخصيَّتَهُ وشَخصَهُ وبالتالي مقدار مسؤوليَّتِهِ والتزامِهِ بمَن هو وإلى مَن ينتمي…
هناكَ مُفارقاتٌ في الحياة، وهناكَ أمورٌ تُحتِّمُ علينا أحيانًا كثيرة مواقفَ لم تكن بالحُسبان والأولويَّات تبقى للإنسان وليس لكميَّة الأموال التي قد يستحوذُ عليها، وظروف كلِّ شخصٍ تحكمُ في المواقف…
يبقى مَحظوظًا مَن لم يُجبرْ على التخلِّي عن إرثِه وهويَّتِه وماضيه لسببٍ أو لآخر، فهو مُعترفٌ بأنَّ مَن ليس لهُ ماضٍ أو هويَّة أو انتماء، لا مُستقبل لديه… فعسانا نَعي الأمورَ من حَولنا قبل فواتِ الآوان في مُطلقِ أيِّ زمان… ٣ /٩ /٢٠٢٣

شارك هذا المحتوى:

إرسال التعليق

ربما فاتك