في مدينة مكناس، شرب طفلٌ عصيرًا بدرهم واحد… فمات. جملة واحدة تختصر مأساة وطنٍ يتهاوى بين غياب الضمير وتقصير الجهة المسؤولة، وطنٍ باتت فيه الحياة تُقاس بسعر السوق لا بقداستها. درهم واحد فقط كان كافيًا ليكشف عفن شركة ترضى أن يُغشّ الغذاء، وتُترك الأرواح فريسة الإهمال.
ما حدث ليس حادثًا عرضيًا، بل جريمة صريحة مكتملة الأركان. جريمة قتلٍ باسم التجارة، وتواطؤٍ باسم الصمت، وتقاعسٍ باسم البيروقراطية. كيف يمكن لدولةٍ تحترم نفسها أن تسمح ببيع السموم على الأرصفة؟ أين هي أجهزة المراقبة؟ أين مكاتب الصحة بالبلديات؟ أين وزارات الصحة و اين حماية المستهلك؟ أم أن دماء الفقراء لا تُحدث ضجيجًا كافيًا ليثير تحرّك المسؤولين؟
حين يموت طفل لأن أحدهم قرر أن يغشّ، ولأن آخر اختار ألا يراقب، فنحن لا نعيش أزمة غذاء، بل أزمة أخلاق وعدالة. هذه ليست فاجعة طفل واحد، بل فاجعة وطنٍ بكامله. وطنٌ يعتاد الموت الرخيص ويبرر الكارثة بخطأ عابر، متناسيًا أن الأرواح لا تُقوَّم بالدرهم، وأن حياة طفلٍ واحد تساوي كل أرباح الأسواق.
كفى تبريرًا. كفى بياناتٍ ناعمة لا تُسمن ولا تُنقذ أحدًا. نحن بحاجة إلى قرارات حقيقية، لا وعودٍ تُدفن مع الضحايا. نريد قانونًا يُطبَّق بصرامة، ومحاسبة لا تعرف المجاملة. من غشّ يجب أن يُحاكم كمجرم، ومن قصّر في الرقابة يجب أن يُعزل بلا تردّد. فالصمت في مثل هذه الجرائم شراكة في القتل، والإهمال خيانة للأمانة.
آن الأوان لنعترف: نحن أمام انهيارٍ أخلاقي قبل أن يكون إداريًا. الرقابة غائبة، الضمير تائه، والمواطن البسيط وحده يدفع الثمن من قوته وصحته وحياته. لا نحتاج إلى حملات موسمية ولا صورٍ أمام الكاميرات، بل إلى ثورة في الضمائر، تبدأ من المصنع وتنتهي عند المستهلك.
ليكن موت هذا الطفل صرخة لا تُنسى، وجرس إنذارٍ لا يُسكَت. فالوطن الذي يسمح بأن يُقتل أطفاله بعصيرٍ فاسد، وطنٌ مريض في قيمه قبل مؤسساته. لا كرامة لوطنٍ يُفرّط في حياة أبنائه، ولا نهضة تُبنى على صمتٍ جبان.
حياة طفلٍ واحدٍ أغلى من كل الأرباح، وأقدس من كل الأعذار. ومن لم يفهم هذه الحقيقة بعد… فهو جزء من الجريمة.


Comments
0