خرجات زعماء الدول الكبرى تثير الجدل وتقسم الرأي العام

مع الحدث متابعة لحبيب مسكر

تحوّل الخطاب السياسي في السنوات الأخيرة من العقلانية الهادئة إلى لهجة مشحونة بالعاطفة، محمّلة برسائل مباشرة وصادمة، يعكسها صعود واضح للخطاب الشعبوي، لا سيما في خرجات قادة دول كبرى باتوا يتقنون فن الإثارة الإعلامية والاصطفاف وراء العواطف الجماهيرية بدل البراغماتية السياسية.

من التهدئة إلى التصعيد: الزعيم الشعبوي في زمن الإعلام الفوري

الرئيس الأميركي دونالد ترامب، يُعدّ أبرز مثال على هذا التحول، حيث شكّلت خرجاته الإعلامية، سواء عبر X(تويتر) أو في التجمعات، قطيعة مع ما اعتاد عليه الرأي العام من لغة دبلوماسية. تصريحاته حول الهجرة، الصحافة، أو حتى الانتخابات، كانت مثيرة للجدل إلى حد الانقسام، لكنها بالمقابل عززت قاعدة مؤيديه التي ترى فيه “صوت الشعب ضد النخبة”.

وبالمنوال نفسه، سار رئيس الوزراء الهنغاري فيكتور أوربان، الذي لم يتردد في تبني خطاب مناهض للهجرة، ومشكك في المؤسسات الأوروبية، مستخدمًا اللغة الشعبوية لتعزيز مفهوم “السيادة الوطنية” ضد ما يصفه بـ”الهيمنة الليبرالية”.

بوتين: شعبوية مصقولة بالقوة

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يتقن فن الخطاب الشعبوي بشكل مختلف، حيث يمتزج عنده الطرح القومي بالتلويح الدائم بالقوة العسكرية، ورفضه الصريح لما يسميه “الإملاءات الغربية”. خرجاته المتكررة التي يؤكد فيها أن “روسيا لن تركع”، وأنها “تدافع عن العالم ضد الأحادية الأميركية”، تلقى صدى واسعًا داخليًا، رغم الانتقادات الدولية. تصريحاته خلال الحرب على أوكرانيا، خاصة تلك التي لوّح فيها باستخدام الأسلحة النووية، لم تكن فقط مواقف سياسية، بل رسائل رمزية مشحونة بنفس شعبي تعبوي.

أردوغان: زعامة تتغذى من الاستقطاب

أما الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، فيُعتبر من أكثر الزعماء توظيفًا للخطاب الشعبوي في الداخل والخارج. خرجاته الإعلامية تتسم أحيانًا بتحدٍّ واضح للمجتمع الدولي، كما في تصريحاته عن القدس، أو في رفضه لانضمام دول معينة إلى الناتو. في الداخل، غالبًا ما يُصوّر نفسه كـ”زعيم مظلوم يحارب القوى المتآمرة”، وهي سردية تخاطب مشاعر فئات واسعة من الأتراك. كما أن تصريحاته خلال الحملات الانتخابية لا تخلو من لغة شعبوية واضحة تُستثمر في الدين والهوية القومية.

كيم جونغ أون: خطاب التهديد والعزلة

رغم الطابع المغلق لنظام كوريا الشمالية، فإن خرجات الزعيم كيم جونغ أون – خاصة عبر بيانات رسمية أو استعراضات عسكرية – تتسم بخطاب تهديدي شعبوي الطابع، حيث يُقدَّم دائمًا كحامٍ للبلاد من “العدو الأميركي والإمبريالية العالمية”. تصريحاته حول “القدرة النووية الرادعة”، وتجربته المتكررة للصواريخ الباليستية، تُستغل داخليًا لتعزيز صورته كقائد لا يُقهر، خارق للضغوط، رغم المعاناة الاقتصادية التي تعيشها بلاده.

شي جين بينغ: شعبوية هادئة بقالب قومي صارم

على عكس الأسلوب الصدامي لبعض الزعماء الشعبويين، يعتمد الرئيس الصيني شي جين بينغ على خطاب شعبوي هادئ، مغلف بعبارات الوحدة الوطنية و”نهضة الأمة الصينية”. خرجاته الإعلامية لا تُخاطب العاطفة بطريقة مباشرة، لكنها تحمل رسائل قومية قوية، خاصة في الملفات التي تمس السيادة مثل تايوان، هونغ كونغ، أو التنافس التكنولوجي مع الولايات المتحدة.

تصريحاته المتكررة حول “الحلم الصيني”، و”رفض الهيمنة الغربية”، و”استعادة أمجاد الأمة”، تُعبّئ الداخل الصيني خلف رؤية موحدة، وتُستخدم بمهارة لصنع زعامة ترتكز على الاستقرار ومكانة الصين كقوة عالمية صاعدة. وبين السطور، يتسلل خطاب تعبوي يربط بين الولاء للنظام والحفاظ على الكرامة الوطنية، وهي صيغة شعبوية خاصة، لا تعتمد على الإثارة بل على ضخ رمزي مستمر يعزز من مركزية الزعيم.

قادة من صلب الجدل: من ماكرون إلى ميلوني

حتى في الديمقراطيات الليبرالية، لم يسلم الخطاب من تأثير الشعبوية. فقد لجأ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، في أكثر من مناسبة، إلى مواقف وتصريحات أثارت امتعاض شريحة واسعة من الفرنسيين، مثل حديثه عن ضرورة “إزعاج” غير المنتجين، أو طريقته الصدامية في مواجهة الاحتجاجات الاجتماعية.

وفي إيطاليا، تُمثل رئيسة الوزراء جورجيا ميلوني نموذجًا جديدًا للخطاب القومي – الشعبوي، حيث تستثمر في قضايا الهوية الوطنية والهجرة لكسب التأييد الشعبي، وغالبًا ما تأتي خرجاتها الإعلامية محمّلة برسائل عاطفية تنجح في شد الانتباه، وإن على حساب تعقيد الملفات.

الإعلام شريك أم ضحية؟

بعض وسائل الإعلام تجد في هذه الخرجات مادة مثالية للرفع من نسب المشاهدة، فتعيد نشر التصريحات الأكثر إثارة خارج سياقها، ما يُغذي دورة الجدل ويُضخم التأثير. لكن الإعلام الجاد يجد نفسه أيضًا في مأزق: هل يمنح المنبر لهذا النوع من الخطاب في سبيل التعددية، أم يُمارس نوعًا من الانتقاء الأخلاقي؟

ما يجمع بين كل هؤلاء القادة هو استثمارهم للخطاب العاطفي في لحظة تاريخية تتسم بعدم اليقين، والقلق الجماهيري من المستقبل. الزعيم الشعبوي ليس بالضرورة ضعيفًا أو متهورًا، بل في الغالب شديد الذكاء، يعي جيدًا كيف يُحرّك الشارع، ويصوغ العناوين، ويوجه النقاش العام.

فهل يمهد هذا لصيغة جديدة من الزعامة، يكون فيها الإعلام منبرًا للضغط الشعبي لا منصة للمساءلة العقلانية؟ الأيام وحدها كفيلة بالإجابة.

شارك المقال
  • تم النسخ
تعليقات ( 0 )

اترك تعليقاً

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)