جاري التحميل الآن

ظِلالُ الخَوف…

 

 

لمياء.أ.الدويهي .لبنان 

إنَّهُ أحدُ الظِّلال التي لا تُفارِقُنا، يَسكُنُنا، يُلازِمُنا، يَدفَعُنا أَحيانًا كَثيرة إمَّا لالتزامِ الصَّمت، وإمَّا لأَخذِ القرار الخاطئ، أو التَّردُّد، فتَمُرُّ الأمورُ وكأنَّها مَتروكةٌ لقدَرِها، أو نُصبحُ عِدائييِّن في مَواقِفنا وقد تُصبِحُ ردودُ فعلِنا عَنيفةً، غاضِبةً، صاخبةً، لا تُشبِهُ حَقيقتَنا ولا طينَتَنا أو فِكرَنا أو طُموحَنا في مَن نُريدُ أن نَكونَ… فتأتي هذه الرُدودُ بَعيدةً كُلَّ البُعدِ عن شَخصيَّتِنا وتُشوِّهُ صورَتَنا وتَظلُمُ ذاكَ الطِّفلَ المُختَبئ في أَعماقِنا والذي نَما بينَ ظِلالٍ أَربَكَتْهُ، أَقلَقَتْهُ وأَقامَتْ حَواجِزَ بينَهُ وبينَ حَياتِهُ، التي ربَّما كانَت لتَختَلِفَ مُجرياتُ أَحداثِها أو لَبَقيَتْ هي هي وإنَّما مُغايرةً من حيثُ التَّفاعُلِ والعَيش…
المُشكلةُ أنَّ بَعضَ مَن يَحيا بينَ أَطيافِ ظِلالِهِ يَعتَقدُ بأنَّهُ لا يَستحِقُّ السَّعادةَ ويُقاصِصُ نَفسَهُ من دونِ أن يُدرِكَ حتَّى أنَّهُ يَفعَلُ ذلك، والبعضَ الآخرَ يَنجِذِبُ لهُ بطريقةٍ مَرَضيَّةٍ ويَتفاعَلُ معهُ، ويُعَلِّلُ الأمرَ بأنَّ الأمورَ هي مَن تَسيرُ على هذا النَّحو أو ذاك وأنَّهُ، غيرُ مَسؤولٍ عن كُلِّ ما يَطرأُ من أَحداثٍ في حَياتِهِ..
من بينِ كُلِّ الظِّلالِ هو الأسوأ، لأنَّهُ يَنبَعُ من داخِلِنا، يُلازِمُنا كالخَيال، وكعَدوٍّ يُؤاخينا…
إنَّهُ الخوفُ، أبو الترَدُّدِ، صاحِبُ القلق، رَفيقُ الأَرَق…
اختَبَرَهُ كُلُّ الناس في مَواقِفَ مُعيَّنةٍ وأَحداثٍ مُختَلفة، هي في كَثيرٍ من الأحيان طبيعيَّةٌ ولا بُدَّ من أن تَطرَأَ على حَياةِ الأشخاص، لضَرورةِ اكتِشافِ الذَّات وبُنيانِ الشخصيَّة.
وتَتفاوتُ درَجاتُهُ بحَسبِ الظُّروف وتَتشَعَبُّ بحَسب المَراحلِ، عِلمًا أنَّهُ يُلازِمُ الأفراد، يَروحُ ويَجيء إمَّا حتَّى يُضبَطَ، وإمَّا حتَّى يَغدوَ السيِّدَ المُطلَق، يَسودُ بأَعرافِهِ ويَستَبيحُ بأَحكامِه… والوجهُ الأسوأُ لهُ هو الذي يَأسُرُنا من الدَّاخِلِ ويُكَبِّلُ خَطواتِنا ويُعيقُ تَقدُّمَنا ويؤثِّرُ سَلبًا في قراراتِنا… لأنَّهُ يَتَغَذَّى من تَقَوقُعِنا وإِدانَتِنا اللامُبَرَّرةِ لذاتِنا، ولِكَونِنا نَتعاطى معهُ في مُعظمِ الأحيان، وكأنَّهُ أمرٌ مُحتَّمٌ غيرُ قابلٍ للتَّغيير… لا يُرديهِ في داخِلِنا سوى تَعَقُّبِهِ في مُحاولةٍ لفَهمِ أسبابِهِ وقِراءةِ أَبعادِهِ واستِدراكِ نتائِجِهِ… ولحظَةَ يَلوحُ «ظِلُّهِ» وَجَبَ التوقُّفُ والتريُّث و«استقبالُهُ» لاستيعابِهِ، والغَوصُ في دَياجيرِ نُفوسِنا لاستِئصالِهِ من جُذورِهِ في كُلِّ مرَّةٍ يُعاودُ فيها الظُهور، فلا يعودُ يَبلُغُ حَجمًا تُحْجَبُ فيهِ الرُّؤيةَ وتُشَلُّ الإرادةُ وتُدَمَّرُ الثِّقةُ، فيَنتُجُ عنهُ ما لم يَكُنْ في الحِسبان والذي غالبًا ما يكونُ «الفشل» المُختَبئ في طَيَّاتِ نجاحاتٍ مُتعدِّدَةِ الأوجُه…
«لا أَحدُ»، غيرُ ذاتِ الإنسانِ ذاتِها يَستطيعُ المُبادرةَ وأخذَ القرارِ بالمواجهة لتَخطِّي ظِلالٍ تَتلَوَّنُ بأزاهيرِ حَياتِنا وتَرتَدي أَثوابَ أَعيادِنا وتَتَمَنطَقُ بحُليِّ وُجودِنا ومن ثمَّ تَمضي قُدُمًا لتَخدُشَ أَوتارًا في حَياتِنا عازفةً أَلحانًا غَوغائيَّةً، غريبةً عنَّا، تُؤلِمُنا، تُكَبِّلُنا، تُشَرذِمُنا، تُعيقُنا، تُؤذينا، تُقلِقُنا، تُبَلبِلُنا…
إنَّهُ نَفَقٌ وَجَبَ علينا تَحويلُهُ إلى مَمَرٍّ نَعبُرُ فيهِ إلى ضِفَّةِ اللِّقاء، فالاكتِشاف، فالانفِتاح، فالمُصالَحة مع الذَّات، فالقُدرة على المُواجَهة، فالمُحاولة لخَوضِ مَجاهِلِ هذه الذَّات، فالإصرار على بُلوغِ الأهداف، حتَّى ولو أَمْعَنَ فينا الاختبارُ تَجريحًا، أَقلُّهُ نُدرِكُ حَقيقةَ ما فينا، ونَعرِفَ قُوَّةَ مَن فينا، وما فينا، ونَتَلَمَّسُ قُدُراتِنا وأَبعادَها وطاقاتِنا وحُدودَها وحينها قد نَستطيعُ تَطويعَ الخَوفِ متى ظَهر، وسَدَّ أَفواهِهِ المُنقَضَّةِ على أطباقِ حَياتِنا تَنهَشُها وتُشَوِّهُها…
لا بُدَّ من الاعترافِ من أنَّهُ سيَبقى دومًا هنا، وأنَّهُ سيَظهرُ في أيِّ وقتٍ كان وأيِّ ساعةٍ كانَت، وأنَّهُ سيكونُ دومًا سيِّدَ اللَّحظةِ في الرَدِّ الفعلِ الأوَّلِ، مَتى عاودَتنا المِحَن أو صادَفَتْنا مَواقِفُ حَياتيَّة، مَصيريَّة…
غيرَ أنَّ الوَعيَ والهُدوءَ والتَمرُّسَ في التَّركيزِ وضَبطَ النَّفسِ والسَّيطرةَ على المَوقِفِ ولَجمِهِ واحتِوائِهِ، لَكفيلٌ بأن يَقلِبَ المُعادلةَ في حَياتِنا، مرَّةً ما بعدَها مرَّةٍ، فلا تَبقى حَياتُنا مُرتَهِنَةً لظِلالٍ أَشَدناها في الماضي البعيد، بوَعيٍ منَّا أو من دونِ وعيٍ، بتأثيراتٍ من مُحيطِنا أو من نَقصٍ فينا، لا فرق… يَبقى أنَّها ظِلالٌ أَسَرَتنا في خَفايا أَوهامِها وأَمْعَنَتْ في مَصيرِنا تَنكيلا… ولعلَّنا نَستطيعُ يومًا التقاطَ زِمامِ الأمورِ وامتِصاصَ رُدودِ فِعلِنا، فلا تُفلِتُ حَياتُنا من وجودِنا وتُصبِحُ كعِطرٍ مُندَثِرٍ، في اللامَحدودِ يَفوح…

شارك هذا المحتوى:

إرسال التعليق

ربما فاتك