مع الحدث
المتابعة ✍️: ذ لحبيب مسكر
في المغرب، حيث تتداخل الجغرافيا مع التاريخ، وتلتقي الثقافات الأمازيغية والعربية والأندلسية، تنبعث من قلب الطبيعة أنغام لا تُشبه سواها. إنها أنغام “عبيدات الرما”، ذلك الفن الشعبي العريق الذي تجاوز كونه مجرد لون غنائي، ليصبح صوتًا للهوية وذاكرةً جماعية تتناقلها الأجيال.
من عمق الجبال.. يولد الإيقاع
في ربوع الأطلس و جميع ربوع المملكة، لا تُنشد “عبيدات الرما” فقط في الأعراس والمواسم، بل في تفاصيل الحياة اليومية، حيث يتحول الغناء إلى حكاية، والرقص إلى لغة، والطبيعة إلى مسرح مفتوح.
هي أغانٍ تحاكي الغابة، والطيور، والحيوانات، كما في المقطع الشعبي:
“فيها الفراخ صغار، فيها الغراب اللي ما عندو صحاب”
عبارة تختزل العلاقة الحميمية بين الإنسان ومحيطه، بين الرعاة الذين يتغنون وهم يسوقون مواشيهم، وبين الفلاحين الذين يزرعون كلماتهم في الحقول كما يزرعون الزرع.
موسيقى من الأرض.. ولها إيقاعها الخاص
لا تكتمل “عبيدات الرما” بدون أدواتها التراثية، مثل البندير والمقص و الطعريجة، ومعها تنبض الأرض تحت الأقدام في رقصات جماعية تحاكي الإيقاع الطبيعي للحياة.
كما تتقاطع هذه الأنغام مع فنون مغربية أخرى، منها:
أحيدوس: الرقصة الأمازيغية ذات الإيقاع الدائري الجماعي.
الحكاية الشفوية التي تتداخل في الأغاني الشعبية، فيروي “الرواية” قصصًا من الزمن الجميل.
تراث مهدد في زمن السرعة
رغم غِنى هذا التراث وقيمته الرمزية، إلا أن فن “عبيدات الرما” يواجه اليوم تحديات جمّة:
زحف العولمة وما تفرضه من أنماط موسيقية دخيلة.
ضعف التوثيق الرسمي لفنون شفوية مهددة بالزوال.
عزوف الجيل الجديد عن الفنون التراثية لصالح أنماط حديثة.
لكن الأمل لا يزال قائمًا، بفضل جهود المهرجانات التراثية والمبادرات الثقافية التي تُقام في القرى والحواضر على حد سواء، لإحياء هذا الفن وضمان استمراريته، مثل مهرجان عبيدات الرما بخريبكة وفعاليات التراث المحلي
“اللي فقد تراثه.. فقد روحه”
هكذا يقول المثل المغربي.
وفن “عبيدات الرما”، بكل ما يحمله من عفوية، وصدق، وحكمة، لا يمثل مجرد ماضٍ نُستحضر فيه الذكريات، بل هو تراث حيّ، يتحرك في الكلمات، وفي الأجساد التي ترقص، وفي الأرض التي تهتز تحت وقع الدفوف.
هو لغة مغربية خالصة، يتكلم بها التراث، ويهمس بها التاريخ، في أذن من يريد الإصغاء.
تعليقات ( 0 )