“عندما تضع حرب أوزارها… هل تبحث مصانع السلاح عن ساحات بديلة لاستمرار الأرباح؟”

مع الحدث: ذ لحبيب مسكر

 

مع انتهاء الحرب في غزة وهدوء أصوات المدافع، قد يظن العالم أن السلام قد حلّ، وأن مصانع السلاح ستتوقف عن العمل. لكن الواقع مختلف تمامًا: فالحرب بالنسبة إلى من يملكون مصانعها ويتحكمون في خيوطها ليست مأساة إنسانية، بل أكبر سوق تجارية في العالم، وكل توقف للقتال لا يُعدّ نهاية بل بداية مرحلة جديدة من التخطيط لنقل رقعة الصراع إلى مكان آخر، حتى تستمر عجلة الإنتاج والأرباح بالدوران.

 

صناعة السلاح تُدرّ مليارات الدولارات سنويًا، وتتحكم فيها شبكات نفوذ تمتد من مكاتب السياسة إلى معامل التكنولوجيا المتقدمة. وعندما تتوقف حرب مثل حرب غزة، تتوقف معها صفقات ضخمة وعقود بمليارات الدولارات كانت تغذي مصانع وشركات عملاقة. غير أن هؤلاء لا يقبلون بالخسارة؛ فالسلم بالنسبة لهم ليس غاية، بل فترة انتقالية يُعاد فيها رسم خريطة الطلب وإطلاق توترات جديدة في مناطق أخرى.

 

غالبًا ما تُصنع الأزمات قبل أن تندلع الحروب. تُزرع بذور الخلاف بين جهتين، وتُغذى التوترات عبر التصريحات والمواقف الاستفزازية، فتبدأ كل جهة في التسلّح الاستباقي خوفًا من المفاجأة. وهنا تتحرك الشركات المنتجة بسرعة لتوفير “الحلول الدفاعية” و”الأسلحة الردعية”، فتتضاعف الطلبيات وتنتعش السوق. وعندما تندلع الحرب، يصبح التزويد مضاعفًا: ذخيرة إضافية، معدات قتالية، وخدمات صيانة ميدانية تجعل الأرباح تتصاعد مع كل يوم قتال.

 

حتى بعد الهدنة، لا تتوقف الدورة. تبدأ حينها مرحلة “إعادة الهيكلة العسكرية”، حيث تُستبدل الأسلحة التالفة بأخرى أحدث، وتُرمم الترسانات بأنظمة متطورة، وتُختبر تكنولوجيا جديدة في ميدان الحرب المنتهية ليُعاد تسويقها في مناطق أخرى. هكذا تتحول الهدنة من لحظة سلام إلى فرصة تجارية لتحديث السوق، ومن مرحلة راحة إلى مختبر مفتوح لتجريب الجيل القادم من الأسلحة.

 

هذا النمط ليس عشوائيًا، بل هو منطق اقتصادي صارم. فصناعة السلاح، مثل أي صناعة كبرى، لا يمكنها البقاء دون “طلب مستمر”. لذا، يسعى صُنّاعها لضمان وجود تهديد دائم في مكان ما على الخريطة. وإذا خفت التوتر في الشرق الأوسط، تُفتح ملفات جديدة في إفريقيا أو آسيا أو أوروبا الشرقية. السلام بالنسبة لهم ليس استقرارًا، بل ركودًا في السوق يجب تجنّبه بكل وسيلة ممكنة.

وراء هذه الدينامية تقف شبكات نفوذ معقدة: شركات عملاقة، لوبيات ضغط، ومصالح سياسية تعرف كيف تدير الخيوط بين الاقتصاد والعسكر. كل صفقة سلاح تعني فرص عمل، نفوذًا سياسيًا، وعوائد مالية هائلة، ما يجعل قرارات الحرب والسلام مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بدورات السوق العالمية. حتى المفاوضات باسم “السلام” لا تخلو من حسابات تجارية دقيقة؛ فبينما تُوقّع اتفاقات التهدئة في القاعات الرسمية، تُبرم في الخفاء عقود تسليح جديدة تُعيد ترتيب القوى والمصالح.

أما الجانب الأخطر فيكمن في سباق التكنولوجيا العسكرية الذي لا يتوقف. بعد كل حرب، تتسابق الدول والشركات لتطوير أسلحة أذكى وأكثر فتكًا: طائرات مسيّرة، أنظمة سيبرانية هجومية، وصواريخ موجهة بدقة متناهية. وكل جولة تطوير تخلق سباقًا جديدًا نحو الشراء والتجريب والتسويق، مما يجعل العالم في حالة استنفار دائم باسم “التوازن العسكري”.

وهكذا يتحول السلام إلى مجرد هدنة تجارية، تُستخدم لترتيب مرحلة جديدة من التسليح، وتتحول الحروب إلى مختبرات ضخمة للابتكار والربح. فكل صراع ينتهي يُمهّد لصراع آخر أكثر تطورًا، وكل منطقة تهدأ تفسح المجال لاشتعال منطقة جديدة.

وفي النهاية، يبقى السؤال الأخلاقي معلقًا: هل يمكن للعالم أن يعيش سلامًا حقيقيًا طالما أن هناك من يربح من الحرب أكثر مما يخسر من انتهائها؟

طالما أن من يدير مصانع السلاح يملك أيضًا مفاتيح السياسة والقرار، فسيظل السلام مؤجلًا، والحروب تتنقّل من خريطة إلى أخرى، لتُبقي السوق مشتعلة والنار موقدة باسم “الأمن والدفاع”.

شارك المقال
  • تم النسخ
تعليقات ( 0 )

اترك تعليقاً

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)