“عندنا الفلوس” عندما يتحول المال إلى وهم القوة وغياب الضمير. 

مع الحدث

المتابعة ✍️: ذ سعيد موزك. 

 

في لحظة كان من المفترض أن تكون نزهة عائلية هادئة على شاطئ “سيدي رحال”، تحولت الحياة إلى كابوس مأساوي، طفلة تلهو بين أحضان البحر وضحكات العائلات، فإذا بسيارة رباعية الدفع تختطف براءتها بفضل استعراض أحمق لسائق متهور بلا رخصة، بلا وعي، وبلا أدنى إحساس بقدسية الحياة، لكن الجرح الأعمق لم يكن في الحادث نفسه، بل في تلك العبارة التي قذفت كسكين في ظهر الإنسانية “حنا عندنا الفلوس…”.. كأن المال يبيح انتهاك الأجساد، أو يطهر الذمم من دم الأبرياء .

ما حدث ليس مجرد حادث سير عابر، بل هو نموذج صارخ لاضطراب نفسي جماعي تغذيه ثقافة “امتلاك المال يعني امتلاك الحق في التعدي”، السائق ومن معه يعانون من وهم التفوق المادي، وهو وهم خطير ينتج شخصيات تنتمي إلى دائرة “اللامسؤولية الأخلاقية”.

السائق الذي يحول الشاطئ إلى حلبة استعراض هو إنسان يعاني من فراغ داخلي عميق، الاستعراض المتهور غالبا ما يكون محاولة لتعويض الإحساس بالدونية أو عدم الكفاءة، فهو يحتاج إلى أن يثبت وجوده عبر الفوضى، لأن قيمته الذاتية مرتبطة بمدى قدرته على لفت الانتباه، حتى لو كان ذلك بدم الآخرين.

عبارة “عندنا الفلوس” تكشف عن خلل مرضي في العلاقة مع المال، هنا المال ليس وسيلة للعيش، بل هو درع وهمي ضد القانون والضمير. هذه العقلية تذكرنا بـ”متلازمة النرجسية الاجتماعية” التي يعتقد فيها الفرد أن الثروة تمنحه حصانة من المحاسبة،”عندنا الفلوس” تجسد انفصالا خطيرا بين الثروة والمسؤولية، في كتابه “رأس المال”، حلل ماركس كيف يغرب النظام الاقتصادي الإنسان عن إنسانيته، فيتحول المال من وسيلة إلى غاية، ويصبح الإنسان مجرد رقم في معادلة الربح والخسارة، لكن المال – رغم قوته – لا يشتري الضمير، ولا يعيد الأنفاس المغتصبة، لو كان المال يطهر الذمم، لتحولت قصور الأثرياء إلى معابد للفضيلة.

المأساة تكمن في أن هذه الحادثة ليست استثناء، بل هي نتاج لبيئة تسمح بتراخي المحاسبة، حين يضعف تطبيق القانون، وتنتشر ثقافة “الفلوس تصلح كل شيء” يصبح العدل سلعة تباع وتشترى، لقد حل المال – في المجتمعات الاستهلاكية – محل القيم الجماعية، كما أشار السوسيولوجي إميل دوركهايم في تحليله لانهيار “التضامن الميكانيكي” لصالح الفردانية المادية.

لو كان المال يطهر الخطايا، لتحولت السجون إلى قصور، ولأصبح الأغنياء قديسين. القضية ليست في “الفلوس”، بل في ثقافة تخلط بين “امتلاك القوة” و”امتلاك الحق”، غيثة وأمثالها ضحايا نظام فاسد ينتج وحوشا بلا مخالب، لكنها تمتلك دفعا رباعيا وعقلا أحاديا.

الطفلة الغائبة عن وعيها الآن ليست مجرد رقم، بل هي اختبار لضميرنا الجماعي، إذا سكتنا اليوم، فسنكون شركاء في الجريمة. والسؤال ليس عن كيفية معاقبة الجاني، بل عن كيفية إصلاح مجتمع ينتج مثل هؤلاء الجناة، لأن المال قد يشتري السكوت، لكنه لا يشتري المستقبل. وعندما يباع الضمير، يباع الوطن نفسه. والظلم لا يقاس بكم الدم المسفوك، بل بكم الصمت الذي يليه، العدالة لا تباع، والإنسانية لا تقاس بالدراهم.

عندما يقتل طفل يقتل المستقبل نفسه. وعندما يشترى القاتل، يباع الوطن.

شارك المقال
  • تم النسخ
تعليقات ( 0 )

اترك تعليقاً

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)