العزلة الاجتماعية في زمن التكنولوجيا: حين يصبح القرب وهماً

 

العزلة الاجتماعية في زمن التكنولوجيا: حين يصبح القرب وهماً

✍️ هند بومديان

لم يعد الإنسان في هذا العصر بحاجة إلى السفر أو انتظار الرسائل ليتواصل مع أحبّائه. بضغطة زر، يمكنه أن يرى من يشاء، ويُحادث من يشاء، في أي لحظة شاء. ومع ذلك، لم يكن الشعور بالوحدة يوماً أقسى مما هو عليه اليوم.

 

في زمنٍ تغوّلت فيه التكنولوجيا على تفاصيل الحياة، تحوّلت العلاقات الإنسانية إلى روابط افتراضية سطحية، مجرّدة من الدفء والصدق. أصبح “الحضور” لا يتجاوز إشعار “متصل الآن”، و”الاهتمام” لا يتعدّى رموزاً باردة تُرسل في ثوانٍ. غابت النظرات، وضاعت الأحضان، واختفت الحوارات العميقة التي كانت تُبنى في جلسات مسائية هادئة، على شاي دافئ أو ركن مقهى شعبي بسيط.

 

العزلة اليوم لم تعد مرتبطة بمكان خالٍ أو غرفة مظلمة، بل صارت حالة نفسية يعيشها الإنسان بين الزحام، وسط “الأصدقاء الرقميين”، و”العائلة المتصلة دائماً”. نتشارك الصور والقصص، لكننا لا نتقاسم الألم. نضحك مع الآخرين على الشاشات، ونبكي وحدنا في صمت مطبق.

 

الأدهى أن التكنولوجيا خدعتنا، فبقدر ما قرّبت المسافات، زادت من المسافات القلبية. صرنا نتحدث كثيراً، لكن لا نتواصل حقاً. نُخبر الناس بما نريدهم أن يعرفوه، لا بما نشعر به فعلاً. نرتدي أقنعة رقمية، نُخفي بها هشاشتنا واحتياجنا لمن يُنصت، لا لمن يُعلّق.

 

جيل بأكمله ينشأ على العزلة المختبئة خلف الشاشات، يفتقد لمهارات التواصل الحيّ، لا يعرف كيف يُصغي، أو يفتح قلبه. جيل لا يُجيد الاعتذار وجهاً لوجه، ولا يعرف كيف يُمسك بيد حزين، أو يواسي أمًّا متعبة، أو يستمع لصديق ينهار.

 

لقد آن الأوان أن نعيد النظر في علاقتنا بهذه التكنولوجيا التي أصبحت تلتهم أرواحنا ببطء. لا عيب في استخدامها، لكن العيب أن نستبدل بها الإنسان. أن نُرضيها على حساب أحاسيسنا، ونُغذّي بها وهم القرب بينما أرواحنا تتباعد.

 

لنعُد إلى أبسط الأشياء: جلسة صادقة، مكالمة طويلة بصوت دافئ، نظرة محبة لا تُترجمها شاشة. لنعُد إلى إنسانيتنا، قبل أن نصبح آلات نتحرك بتقنيات فائقة… لكن بقلوب فارغة.

كلمات دلالية
شارك المقال
  • تم النسخ
تعليقات ( 0 )

اترك تعليقاً

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)