مع الحدث متابعة لحسن المرابطي
في ثمانينيات القرن الماضي، كانت الحرب بين العراق وإيران تشبه مباريات الملاكمة الطويلة، يتبادل فيها الطرفان اللكمات، ثم يعود كل منهما إلى زاويته ليلعق جراحه، قبل أن يعود إلى الحلبة بندبة جديدة. كانت حربًا كلاسيكية: دبابات صدئة، وخنادق موحلة، وصواريخ سكود تفتّش عن عنوان في الضواحي.
ثم انتهت المعركة بدخول أمريكا الحلبة، لا كمراقب محايد، بل كمدرب ساخط قرر أن يُنزل العقوبة بالتلميذ المشاغب: العراق، لأنه تجاوز الخطوط الحمراء واحتل الكويت. فكان التأديب على الطريقة الأمريكية: سريعة، موجعة، و”منضبطة دولياً”.
واليوم؟
نعود إلى المشهد ذاته… لكن بديكور جديد وممثلين بملامح مختلفة. العدوّان اللدودان هذه المرة هما إيران وإسرائيل. لا خنادق، لا هجوم بري، لا “حرب مدن” بالمعنى الكلاسيكي. بل حرب تكنولوجية باردة وساخنة معاً، تطير فيها المسيرات بدلاً من القذائف، وتهاجم السيرفرات بدل الثكنات.
المفارقة العجيبة أن أمريكا لم تعد تضطر للركوب في الدبابة أو الطائرة. هناك من “يؤدب” نيابة عنها. إسرائيل تضرب مصانع الأسلحة، وتغتال العلماء، وتستهدف القوافل بين سوريا والعراق، وكل ذلك تحت مسمى “منع التهديد الإيراني”. والنتيجة؟ إيران ترد بالمثل، أحياناً بكلمات، أحياناً بصواريخ، وأحياناً بتجاهل محسوب.
أين المدن؟
حرب المدن اليوم تُشنّ على الشبكات: الكهرباء، الماء، الإنترنت، المصانع. وقد تحوّلت من صواريخ تضرب مباني شاهقة إلى فيروس رقمي يتسلل إلى قلب منشأة نووية.
والسؤال الذي يُطرح بمرارة ممزوجة بالسخرية: هل قدّر للشرق الأوسط أن يعيش دور الحلقة الأضعف في مسرحيات القوى الكبرى؟ هل كتب عليه أن يظل تحت التأديب، مرة من أمريكا، ومرة من إسرائيل، ومرة باسم الديمقراطية، وأخرى باسم “الأمن الإقليمي”؟
من بغداد إلى طهران، من الكويت إلى غزة، تتغير الأسماء، تبقى النغمة واحدة: هناك من يُعاقب، وهناك من يُؤدِّب، وهناك من يتفرّج… وكلهم يرفعون شعار: “الحرب من أجل السلام”.
حقاً… ما أشبه اليوم بالأمس.
لكن الفرق الوحيد أن القتلى الآن لا يجدون وقتًا لكتابة وصاياهم، فالطائرات المسيّرة أسرع من الحبر.
تعليقات ( 0 )