العلاقات الاجتماعية

 هندسة النفس في زمن التصدّع

✍️ ” هند بومديان “

في زمنٍ تتسارع فيه وتيرة الحياة، وتتشابك فيه العلاقات بين الواقعي والافتراضي، بات الإنسان أكثر وحدةً رغم كثافة التواصل. فهل ما نعيشه اليوم هو تواصل حقيقي أم مجرد ضجيج اجتماعي؟ وهل العلاقات ما زالت تؤدي دورها النفسي في بناء الذات، أم تحوّلت إلى عبءٍ ينهك الروح؟

العلاقات الاجتماعية ليست مجرد ترفٍ إنساني أو تفاعلٍ يومي عابر، بل هي بنية نفسية عميقة تتداخل فيها الحاجة إلى الانتماء مع الرغبة في الاعتراف، وتتشابك فيها الذات بالآخر في رقصة وجودية لا تهدأ. فالإنسان لا يكتمل وحده، ولا يتوازن في عزلةٍ مطلقة، بل يحتاج إلى مرآة الآخر كي يرى نفسه، ويحتاج إلى دفء العلاقة كي يرمم هشاشته الداخلية.

في كل علاقة اجتماعية، هناك تبادلٌ غير مرئي للطاقة النفسية. نظرةٌ صادقة قد تُعيد بناء يومٍ منهك، وكلمةٌ جارحة قد تهدم جدارًا من الثقة بُني على مدى سنوات. لهذا، فإن العلاقات ليست فقط وسيلة للتواصل، بل هي أدواتٌ نفسية تُشكّل المزاج، وتُعيد ترتيب الأفكار، وتُؤثر في قرارات الإنسان وموقفه من الحياة. من يعيش في محيطٍ داعم، يشعر بأن العالم أكثر احتمالًا، بينما من يُحاصر بعلاقات سامة، يختنق حتى في اتساع الفضاء.

العلاقات الإيجابية تُغذّي النفس، تُعزّز الإحساس بالأمان، وتُعيد للإنسان ثقته بذاته. هي كالماء للزهرة، لا تُرى أهميتها إلا حين تغيب. أما العلاقات المزيّفة، فهي كالغبار على الروح، تُعكّر صفوها، وتُشوّه صورتها الداخلية. في زمنٍ كثرت فيه الوجوه وقلّ فيه الوجدان، بات الإنسان أكثر حاجةً إلى علاقات حقيقية، لا تُبنى على المصلحة، ولا تُدار بالتمثيل، بل تُؤسّس على الصدق والاحترام والتعاطف.

الانعكاسات النفسية للعلاقات لا تُقاس فقط بالفرح أو الحزن، بل تُقاس بمدى قدرة الإنسان على أن يكون نفسه داخل العلاقة. حين يشعر الفرد بأنه مُضطرٌ إلى التمثيل أو التنازل عن جوهره كي يُرضي الآخر، فإن العلاقة تتحوّل إلى عبءٍ نفسي، وتُصبح مصدرًا للقلق والاغتراب. أما حين يجد الإنسان مساحةً ليكون كما هو، دون خوفٍ من الرفض أو التقييم، فإن العلاقة تُصبح ملاذًا نفسيًا، ومصدرًا للنمو الداخلي.

في النهاية، العلاقات الاجتماعية هي هندسةٌ دقيقة للنفس، تُبنى بالكلمة، وتُهدم بالصمت، وتُزهر بالصدق. ليست الكثرة هي المعيار، بل الجودة والعمق. فواحدةٌ صادقة قد تُغني عن مئةٍ سطحية. وفي عالمٍ يزداد فيه الضجيج، تبقى العلاقة الحقيقية هي الهدوء الذي نبحث عنه، والمرآة التي نحتاجها لنرى أنفسنا بوضوح.

كلمات دلالية
شارك المقال
  • تم النسخ
تعليقات ( 0 )

اترك تعليقاً

1000 / 1000 (عدد الأحرف المتبقية)