أجيالُنا الصَّاعدة…
لمياء.أ.الدويهي.لبنان
أجيالُنا الصَّاعدة تبحثُ عن ذاتِها الضَّائعة، ولا تَعرفُ أين تَجدُها، وليسَ للإصغاء ولا للاتِّضاع في قاموسِها مكان، تَرفضُ المُلاحظات، تَرمي بالخِبرَةِ عِرضَ الحائط، تُريدُ أن تُحَلِّقَ بجَناحَين لم تَعتَدا يَومًا الطَّيران، تَهوى الجِدالَ العَقيمَ، تُعاندُ لسببٍ أو من دون سبَب، تُريدُ كُلَّ الأشياء، تُطالبُ بحُقوقِها ولا تُدرك أنَّها لا تأتي على وِسادةٍ ناعمة… أَجيالُنا الصَّاعِدةُ تَتَأَلَّمُ بل وتَئِنُّ من الألمِ وحين تُعاندُ وتُكابرُ، تَجِدُ لَذَّةً في مُمارسةِ انتقامِها اللَّاواعي لأنَّهُ لا يوجدُ، بحسبِ رأيها، مَن يُمَيِّزُ نِداءَها ويَلتفِتُ إلى أَوجاعِها المُزمِنة… إنَّها أجيالٌ حائرَة، تَتلَقَّى تَعاليمًا وتَرى من حَولِها أُمورًا مُعاكِسةً ومُغايرَةً، مُتناقِضَةً، قِوامُها المَحسوس والغَرائِزي… كُلُّ الأُمورِ أَمامَها مُباحَةٌ ومُتاحُ الحُصولُ عَليها؛ سُمومٌ مَعروضَةٌ على مَوائدِ حَياةِ شُبَّانِنا وشابَّاتِنا، بجانِبِ الأَطباقِ الحَيويَّة، وكأنَّها خَيارٌ طَبيعيٌّ يختارونَهُ بمِلءِ إرادتِهم وقَراراتِهم التي لم تَنضَجْ بَعد ولم تَتحَصَّنْ ضِدَّ ما قد يُدَمِّرُ شَفافيَّةَ نُفوسِهم ويَخدِشُ روحَهم ويُشَوِّهُ أَخلاقَهم ويُصيبُ أَعماقَهم ويؤثِّرُ على روحِ التَّمييزِ لدَيهم بسببِ هذه الصُّورِ المُتضاربةِ التي تَترسَّخُ في عُقولِهم وتُمعِنُ فيها تَنكيلًا… وأمَّا رُدودُ فِعلِهم، التي لا تَنصاعُ لمَنطِق، فَتُشابِهُ مَن يُصارِعُ في المَيدان، تَتهجَّمُ، تُطلِقُ أَحكامًا مُسبَقة، تَصرُخ بهَيَجانٍ بُركانيٍّ، ثائرٍ لا مَثيلَ لهُ، قد يَنفَجِرُ في أَيِّ لَحظةٍ، وفي أَحيانٍ أُخرى تَكونُ عَنيفة، كما الوَحشُ الكاسِرُ المُفترسُ الذي يزأُرُ وإنَّما… أَلمًا…
شبيبتُنا تَحتاجُ إلى الحُبِّ والكَثيرِ من التفَهُّم والدَّعمِ والمُرافَقَة والقيمَة لشَخصِها، ولكنَّها أيضًا تَحتاجُ لمَن يَضَعُ لها الحُدودَ اللَّازِمَة لحِمايَتِها من الخَطَرِ الذي يَتَسَرَّبُ إلى داخِلِها ويُهَدِّدُ سَلامَ نَفسِها وقَلبِها واستِقرارِها، شَبيبَتُنا تَحتاجُ إلى التَّأديب الحِقّ، فوحَدَهُ يَبني الإنسان، ولا نُحاولُ اللُّجوءَ إلى الضَّربِ والقَمعِ ظنًا مِنَّا أَنَّهُما الحَلُّ الأنسَبُ عندما لا نَجِدُ جَوابًا يُقنِعُهم، فلا نَنسى، شَبيبَتُنا لها كَيانُها وفِكرُها اللَّذَين يَنموان ويَتَطوَّران وتَحتاجُ منَّا إشرافًا مُحكَمًا، صادِقًا، أمينًا، لحِمايتِهم ودَرءِ الخَطرِ عنهم، شَبيتُنا تَحتاجُ أن تُثبِتَ ذاتَها، لذا تَنتَفِضُ وتَثورِ، وفي أَحيانٍ كَثيرة، وبدلاً من أن نَمتَّصَ ارتِداداتِهم الدَّاخليَّةَ الحائِرةَ والقَلِقَة، نَقمَعُ ونَكبُتُ ونَشُدُّ الحَبلَ إلى أَقصاه، حتَّى يَنقطِعَ مَعهُ حَبلُ التَّواصُلِ، فنَدخُلَ في دائِرَة الخَطر مُولِّدين شَبيبةً مُتَمَرِّدةً، ثائرَةً، هائِجةً، قادرةً على فِعلِ أَيِّ شيءٍ انتِقامًا… والتيَّاراتُ اليوم أَقوى منَّا وقادرةٌ على جَرفِنا بمَعيَّةِ شَبيبتِنا، وتكاثُرُها يُشتِّتُنا، وقد نَبحَثُ عن الحُلولِ في الأماكنِ الخطأ، والنَّتيجة؟ تَتفاوتُ بين فئةٍ وأُخرى، بينَ المُتَضَرِّرِ والأكثرِ أو الأَقلِّ ضَرَرًا، وحَتمًا ستُخَلِّفُ انعِكاساتٍ سَلبيَّةٍ على حَياتِهم، ولا نَعلَمُ مدى قُدرَتِهم على المُقاوَمَةِ والصُّمودِ في قَلبِ هذه التيَّارات قبلَ بُلوغِ ميناءِ حَياتِهم والتِقاطِ خُيوطِها من أَطرافِها لإعادةِ تَنظيمِها، وهذا إن قَدِروا، فَهُم لم يَحظَوا بالمَنارَةِ التي تَخرِقُ ضَبابَ نُفوسِهمِ الشَّائِكة ليَرَوا بوضوحٍ، وإلاَّ لما آلتِ الأمورُ إلى ما هي عليه…
ما تَحتاجُهُ شَبيبَتُنا هو الوَقتُ، ما تَحتاجُهُ شَبيبَتُنا هو الإِصغاءُ، ما تَحتاجُهُ شَبيبَتُنا هو القيمَةُ والإيمانُ بقُدُراتِهم ومَنحُهم الثِّقَةَ إلى أَبعَدِ حُدود، ما تَحتاجُهُ شَبيبَتُنا هو الصَّبرُ والسَّهرُ عَليهم، ما تَحتاجُهُ شَبيبَتُنا هوالحُبُّ والفائِضُ منهُ لتَتَغذَّى نُفوسُهم وتَستَكِنَّ أَوجاعُهم وتَهدأَ عَواصِفُ قُلوبِهم واضطِراباتُها بانتِظارِ أن يَعبُروا إلى الضفَّةِ التَّالية، إلى مَرحَلَةِ النُّضوجِ، فنُهديَ غَدَنا شَبيبَةً مُسلَّحَةً بالعِلم، مُدَجَّجةً بالأخلاقِ والقيَمِ والثِّقَةِ بالنِّفسِ وبقيمَتِهم الحَقيقيَّة وبأهَميَّةِ كُلِّ واحدٍ منهم وتَمَيُّزِهِ وفَرادَتِهِ بَينَ أَقرانِهِ… يَبقى السُّؤالُ الأَهمُّ: «هل نحنُ على القَدْرِ الكافي من الحُبِّ والثِّقة بُقُدُراتنِا الذَّاتيَّة؟ هل نَتَضامَنُ ونَتعاونُ ونتَشارَكُ بالمَسؤوليَّةِ لخَيرِ أبنائِنا، هل نَتمتَّعُ بالقَدْرِ الكافي من القوَّةِ لنَنهَضَ ونَمضيَ بِهِم قُدُمًا إلى قَلبِ الحَياةِ، أم أنَّ خَوفَنا من التَّطَوُّرِ وازدِحامِ الأُمورِ التي تَتَنازَعُنا نحنُ أيضًا، تُضَلِّلُنا وتُشَكِّكُنا بأنفُسِنا وبِقُدُراتِنا وتَحبِسُنا في زِنزاناتِ مَخاوِفِنا؟… فلنَتَحَرَّرْ نحنُ أولًا، ولَنبَحثْ عن جَوهِر المُعضِلة وأَصلِها ولنُعالِحْ تَصَدُّعاتِ عائِلاتِنا من جُذورِها مُستَندينَ على ما نَملِكُهُ من نِعَمٍ مَوهوبةٍ لنا من عَلياء، فهذا أَقَلُّ ما يَستَحِقَّهُ أَبناؤنا وبناتُنا مِنَّا، لخَيرِهم وليَكتَمِلَ فَرَحُنا بهم…
شارك هذا المحتوى:
إرسال التعليق