أن ترسم لتعيش… حكاية د.هند الحارثي بين الألوان و الحياة
✍️ هند بومديان
من بين أزقة الدار البيضاء، وفي قلب الحياة اليومية الصاخبة، تنبض ريشة هند الحارثي بروح لا تعرف الانطفاء. لم يكن الفن محطة عابرة في حياتها، بل كان الوطن الأول، اللغة التي نطقت بها قبل الكلمات، والمأوى الذي احتمت فيه من تقلبات الزمن. رغم أن دربها الأكاديمي لم يسلك طريق الفنون الجميلة، إلا أن شغفها بالفن التشكيلي كان كالجذر الممتد عميقًا في التربة، ينمو بصمت حتى حين لم يره أحد.
في موسكو، حيث درست الصيدلة، لم تكن المعادلات الكيميائية وحدها من أثرت فيها، بل سحر المعمار، صقيع الأرواح، ودفء اللوحات المعروضة في متاحف المدينة. هناك، كانت تنظر إلى الجدران أكثر مما تنظر إلى الكتب، وتقرأ القصص في الوجوه المرسومة أكثر من السطور المطبوعة. فنانة بالفطرة، تلقت تكوينها من الحياة، من الحزن والفرح، من التأمل والانكسار، من لحظات القوة والضعف.
أعمالها ليست تقليدية، ولا تخضع لوصفة جاهزة أو مدرسة واحدة، بل هي مزيج من التجريب والبوح العاطفي، حيث الألوان تسيل بحرية، والخامات تتآلف لتنسج رسالة. وجوه النساء، الخطوط الحادة أحيانًا والناعمة أحيانًا أخرى، والأقمشة المعاد تدويرها، كلها ليست مجرد مواد، بل ذرات من روحها المبعثرة على القماش.
لا تبحث هند عن الألقاب ولا تلهث خلف التكريمات، فهي تؤمن أن عيون المتلقي حين تدمع أمام لوحة، أو حين يطيل النظر في تفصيلة بسيطة، هو أعظم وسام يمكن أن يعلّق على صدر الفنان. الفن بالنسبة لها ليس ترفًا، بل ضرورة، صرخة من الأعماق أو همسة فيها شفاء. وقد عاشت هذا المعنى وهي ترسم لوحاتها في لحظات شخصية حرجة، فكانت اللوحة حضنًا والفرشاة طوق نجاة.
بين مراكش وبلجيكا، وبين المعارض الكبرى والفضاءات البسيطة، حملت هند أعمالها كما يحمل المرء قلبه في كفه: بخوف، بشغف، وبكثير من الأمل. كل معرض كان بوابة جديدة، وكل تفاعل مع جمهور مختلف كان مرآة جديدة لرؤية الذات. المغاربة يتذوقون فنها بعاطفة صادقة، بينما يقرأه الأوروبيون بعين تحليلية، لكن الجميع يشترك في الإحساس بأن وراء هذه اللوحات امرأة تحكي شيئًا أعمق من الصورة.
حين تتحدث عن الفن، تتحدث عن مقاومة صامتة. مقاومة الصورة النمطية، مقاومة التهميش، مقاومة النسيان. تراه كأداة تغيير، وسيلة للحوار، بل وشكلًا من أشكال العدالة. ولهذا تحلم أن تعرض أعمالها في فضاءات عالمية، ليس فقط لتنال الاعتراف، بل لتكون جزءًا من تلك المعركة النبيلة التي يخوضها الفن في سبيل الحرية والوعي.
ليست هند الحارثي فنانة تبحث عن الضوء، بل هي الضوء نفسه، يشع من داخلها على القماش، وعلى العالم. في كل ضربة فرشاة، حكاية. في كل لون، نبض. وفي كل معرض، حياةٌ جديدة تولد من رحم الفن.
تعليقات ( 0 )