الحاضي ماء العينين
يحدث أحياناً أن يتحول النوم إلى “مونولوg” داخلي يوجعك أكثر مما يريحك. تغفو على أمل بسيط: سكن يليق بك، مدرسة تشبه أبناءك، مستشفى يحترم آلامك، وعدالة تضع القانون في ميزان الإنصاف. لكنك تستفيق على واقع يصرّ أن يعيدك إلى نقطة الصفر: الفوضى، العبث، واللامعنى.
الوطن الذي نحمله في صدورنا لا يشبه الوطن الذي نعيشه. نريده فضاءً للأمل، لكنه يُصرّ أن يضعنا أمام سراب المؤسسات وواقع التناقضات. فهل قدر المغاربة أن يظلوا أسرى لعبة مصالح ضيقة، فيما تُباع القيم الكبرى في أسواق صغيرة؟
كم من أسرة استيقظت على وقع “الطراكسات” تهدم بيتها؟ يقال إنه باسم القانون، لكنه في الغالب قانون ينتقي ضحاياه. جرافات تقتحم البيوت، لا تميز بين مشروع حياة ومخالفة إدارية. والمفارقة أن الذين يهدمون أحلام الناس، يبنون مستقبل أبنائهم على أنقاضها. هنا يفقد المواطن الثقة، لا فقط في العدالة، بل في معنى الانتماء ذاته.
يدخل المريض إلى المستشفى مثقلاً بأوجاعه، ليكتشف أن أول ما يُشَرَّح ليس جسده بل جيبه. أطباء أقسموا على خدمة الحياة، لكن بعضهم ينسى القسم أمام إغراء الربح. فاتورة مضاعفة، علاج مشروط، وأدوية تحتكرها لوبيات. فهل الحق في الصحة، الذي يكفله الدستور، أصبح مجرد بند للتزيين في وثائق رسمية؟
يحتفل الآباء بتخرج أبنائهم وحصولهم على شواهد عليا، لكن الصدمة تأتي عندما يكتشفون هشاشة فكرهم وسطحيّة تكوينهم. مدارس تعلم الطاعة بدل النقد، وجامعات تُخرج موظفين أكثر مما تخرج مواطنين أحراراً. والنتيجة جيلٌ يحمل ورقاً مختوماً لكنه عاجز عن طرح سؤال بسيط: لماذا؟ وكيف؟
في المحاكم، يواجه المواطن مساطر أكثر مما يواجه عدالة. قضايا تتأخر سنوات، قرارات تتناقض، وممارسات تُضعف الثقة في مؤسسة يفترض أن تكون الحصن الأخير للمظلوم. العدالة لا تُختزل في النصوص، بل في الروح التي تحركها. فهل فقدنا هذه الروح؟
لسنا في جزيرة معزولة. نحن في زمن الأنترنيت، حيث جلسة فوضوية في مجلس محلي تتحول إلى مادة عالمية، وحيث خطأ إداري بسيط يصبح عنواناً لضعف مؤسساتنا. إن صورة بلدٍ ما لم تعد تُصنع في مكاتب مغلقة، بل على مرأى من العالم. وبدل أن نصدر صورة التنمية، نصدر صورة الفوضى، في مشهد لا يضر فقط بالمنطقة بل بصورة المغرب ككل.
الوطن لا يحتاج إلى خطب رنانة ولا إلى لغة خشبية. الوطن يحتاج إلى مستشفيات تعالج، لا تستنزف. إلى مدارس تُخرج مواطنين مفكرين، لا موظفين خانعين. إلى عدالة تُطمئن الناس، لا تربكهم. إلى مسؤولين يعملون لمصلحة المواطن، لا لمصلحة الحزب أو الحساب الانتخابي.
إن أخطر ما نعيشه اليوم هو تطبيعنا مع العبث. أن نقتنع بأن لا شيء سيتغير، وأن نرضى بالقليل رغم أننا نستحق الكثير. هذا الاستسلام هو الذي يُفقر الحاضر ويفرغ المستقبل.
أيها السادة المسؤولون وصنّاع القرار: القطار قد يتأخر، لكن المحطة التي سيحط فيها ستحدد مصير أمة. إما أن تكون محطة اسمها “كرامة”، أو محطة أخرى لا تحمل سوى مزيد من الفوضى واللاجدوى.
الوطن أمانة، والأمانة لا تُباع ولا تُشترى.
تعليقات ( 0 )