تمتاز بعض المناطق الصحراوية بجنوب المغرب بتحضير فطائر “المدفونة”، التي تُخبز تقليديا في رمال هذه المنطقة، وهي النسخة التي ابتكرها الأمازيغ من “البيتزا”.
فطبيعة الطعام الذي يُطهى في هذه المناطق، لا تلائم تعقيد العصر الحديث بما فيه من آلاتٍ وماكينات، لكنها تناسب ما يتحلى به السكان في هذه المنطقة الصحراوية من مهارة وتصميم.
ومن بين الأطعمة الشهيرة في هذه المنطقة، فطائر تحمل اسم “المدفونة”، وهي عبارة عن قطعة خبز منبسطة محشوة، تُعد باستخدام عددٍ محدودٍ من المكونات الأساسية، وتُخْبَزَ بطريقةٍ تقليديةٍ في حفرة في الرمال بداخلها نار أو في موقدٍ من الطين.
ولسنواتٍ طويلة، شكلت هذه الفطائر وجبةً صحيةً ومفيدةً للكثير من الأسر البدوية، التي عاشت على أطراف منطقة كثبان “عرق الشبي” المتاخمة للحدود مع الجارة الجزائر.
وبمجرد إتمام خَبْزْ هذه الفطائر، تصبح شبيهة إلى حدٍ بعيد بفطائر “البيتزا”، إلى حد أنها تُلقب محليا باسم “البيتزا الأمازيجية”.
ولإعداد هذه الفطيرة التقليدية، تُستخدم وصفة صحراوية عتيقة لإعداد الخبز، تتألف من “الدقيق، الخميرة، الملح، زيت الزيتون، والماء”.
ويُعجن هذا الخليط ليصبح ذا قوامٍ ثخين ولدنٍ وقابل للتمدد، ثم يُضغط ليُبسط على شكلٍ دائريٍ، قبل بسطه ثانية فوق الحشو، الذي يشمل اللحم البقري، والبيض، وأنواع من المكسرات، والبصل، والثوم، والأعشاب، والتوابل مثل الكمون والفلفل الأحمر (غير الحريف)، والكركم، والزنجبيل، وكذلك البقدونس. وبعد ذلك يُضغط على العجين من مختلف أطرافه ليُغلق على ما به من حشو.
وفي ظل محدودية الموارد التي يمكن أن تتوافر في البيئة القاحلة بمنطقة الصحراء، يتوجب على السكان هناك اختيار أطعمة سهلة التحضير. كما أن بوسع هؤلاء اللجوء إلى طرقٍ أكثر بساطة لطهي الفطائر المحشوة، عبر الاستفادة من العناصر الموجودة في البيئة المحيطة.
وفي هذه الحالة، يتم حفر حفرةً في الرمال، وتبطن من القاع بأحجارٍ، ويتم إشعال نار محدودةً تحتها لتسخينها. وتُوضع عجينة “المدفونة” فوق هذه الأحجار الساخنة مباشرة، وتُغطى بغطاءٍ معدني أو بالرمال نفسها.
وتتكون قشرةٌ خارجيةٌ متفحمةٌ سوداء اللون للفطيرة، وذلك في الأماكن التي يتلامس فيها العجين بشكلٍ مباشر مع ألسنة اللهب والأحجار الساخنة. ومن اللازم إزالة هذه الطبقة المتفحمة باستخدام قطعة قماش، وكشطها من فوق الفطيرة بسكين قبل أن يتسنى أكلها.
وفي نهاية المطاف، يتم تقسيم الفطيرة لعدة أجزاء كي يصبح من الممكن توزيعها على أكبر عددٍ ممكن من الأشخاص.
ورغم أن وصفة تحضير “المدفونة” مُستمدة من طرق الطهي القديمة لدى البدو، فإن الفطائر من هذا النوع تُحضّر كذلك بأساليب أخرى غير وضعها في حفرة من الرمال.
ففي الكثير من البلدات الصغيرة المتناثرة في مختلف أنحاء منطقة الصحراء، لا يزال إعداد “المدفونة” بشكلٍ تقليدي في فرنٍ مُشيّد من الطين، أمراً شائعاً بين الكثير من العائلات.
فغالباً ما يخصص هؤلاء في منازلهم غرفةً جيدة التهوية، أو حتى مساحة مكشوفة في الهواء الطلق، لإعداد الطعام بهذا الأسلوب.
ولكل أسرة طريقتها الخاصة في تحضير “المدفونة” ووصفتها المختلفة في هذا الشأن أيضاً.
فالبعض من هذه الأسر، يستخدم مكوناتٍ أساسيةً بشكلٍ أكبر مثل البيض والطماطم وبذور عباد الشمس أو الخشخاش، بينما يضيف آخرون اللوز والكاجو، والزيتون، ولحم الضأن، والدجاج، واللحم البقري المفري، أو شرائح من لحم البقر المطبوخ.
وهكذا فإن الخيارات المُتاحة لما يُمكن إضافته لهذه المكونات لا نهاية لها في واقع الأمر.
لكن بغض النظر عن مكونات الحشو، فإن ثمة اتفاقاً على أمرٍ واحد في مختلف أنحاء منطقة الصحراء، وهو أن اللجوء إلى الطرق الأصيلة والتقليدية في إعداد “المدفونة” – سواء عبر وضعها في حفرة في الرمال أو استخدام موقدٍ طينيٍ لهذا الغرض – يؤدي بلا ريب إلى أن نحظى بفطائر ذات مذاقٍ هو الأكثر لذة على الإطلاق.
وتكتمل هذه اللذة بفضل المذاق المُدَخَن الفريد الذي تُفعم به تلك الفطائر، والذي لا يمكن الحصول عليه إذا ما أعدت “المدفونة” في فرنٍ حديثٍ مألوفٍ أو عادي.
وفي الوقت الحاضر، بوسع عشاق “المدفونة” العثور عليها غالبا في مطاعم أمازيغية متواضعة الحال، تتخصص في تقديم الوجبات السريعة والجاهزة مثل فطائر “البيتزا”، وتقبع في بلدة “الريصاني” الصحراوية التي تشتهر بهذا اللون التقليدي من الطعام. وفي الفترة الحالية، تشكل هذه البلدة بتواضع بوابةً لمنطقة الكثبان الرملية التي تحدثنا عنها من قبل.
وتقع “الريصاني” قرب الأنقاض المتداعية لمدينة “سجلماسة”، وهي مدينةٌ صحراويةٌ يعود تاريخها إلى العصور الوسطى، وكانت تشكل مركزا تجاريا على الطرق التي تمر بها القوافل، وعلى متنها السلع المُتجهة إلى ما يُعرف بأفريقيا جنوب الصحراء الكبرى.
وبحكم كون إيقاع الحياة فيها أسرع قليلاً من ذاك السائد في باقي بقاع منطقة الصحراء، تشهد “الريصاني” طلباً أكبر على الوجبات السريعة.
وإذا كنت ترغب في تناول “المدفونة” خلال زيارتك لهذه البلدة، فستعثر على بغيتك في مطاعم صغيرة المساحة ومتواضعة الحال للغاية، تجدها هنا وهناك في جنبات الشوارع الضيقة بالسوق الموجود هناك.
وتوجد هذه المطاعم في موقعٍ ملائمٍ للزوار بالنظر إلى كونها قريبة من مواقف سيارات الأجرة، وتوجد عليها علاماتٌ تُبين للمرء أن بوسعه أن يطلب من القائمين عليها وجبةً سريعةً من فطائر “المدفونة”، التي تشكل الطبق الأول في قائمة الوجبات المُقدمة فيها.
ومن المعتاد أن تجد هذه المطاعم غاصةً للغاية بالحركة والرواد كذلك، إلى حد يجعل بعض الزبائن يقفون في الصف لأكثر من ساعة بانتظار الحصول على وجباتهم.
ويحدث هذا في ظل انشغال الطهاة بإخراج وإدخال الفطائر في أفرانٍ كبيرة، تُستخدم كذلك لإعداد الخبز الطازج، وتُشوى فيها أيضا – على نار هادئة – اللحوم سواء كانت لحم ضأنٍ أو لحماً بقرياً، بجانب الدجاج الذي يُوضع في تلك الأفران كاملاً دون تقطيع.
ويتنوع مذاق فطائر “المدفونة” بما يلائم مختلف أذواق زبائنها، في ضوء أن السكان غالباً ما يجلبون معهم إلى المطعم مكونات الحشو التي يفضلونها، والتي يحصلون عليها من قصابين (جزارين) موثوقٍ بهم، أو يُعِدونها في المنزل على يد أفراد الأسرة، ومن ثم يطلبون من العاملين في هذا المطعم أو ذاك حشو فطائرهم بها.
وتشبه مطاعم “الريصاني” تلك الصغيرة متواضعة الحال بشكل كبير نظيراتها المتخصصة في الوجبات السريعة والتي تُعد فيها فطائر البيتزا، إلى حد أن “المدفونة” ُتعبأ في صناديق من الورق المقوى لزبائنها، ممن يريدون تناولها في أماكن أخرى غير المطعم نفسه.
في نهاية المطاف، يمكن القول إن تلك الفطائر تشكل وجبةً مثاليةً، لمن يريدون لونا من الطعام يمكن توزيع شرائحه وتوزيعه على عددٍ من الأشخاص، قبل الانطلاق في رحلة عبر ربوع الصحراء المغربية.
Share this content:
إرسال التعليق